ذكر خلاف نائب السلطان ببلاد التلنك

 ولما عاد السلطان من التلنك وشاع خبر موته، قد الوان زاده وكان ترك تاج الملك نصرة خان نائبا عنـه ببلاد التلنك، وهو من قدماء خواصه، بلغه ذلك فعمل عزاء السلطان، ودعا لنفسه، وتابعه الناس بحضرة بدركوت. قد الوان زاده فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث معلمـه قطلوخان في عساكر عظيمة، فحصره بعد قتال شديد هلك فيه أمم من الناس، واشتد الحصار على أهل بدركوت، وهي منيعة، وأخذ قطلوخان في نقبها. قد الوان زاده فخرج إليه نصرة خان على الأمان في نفسه، فأمنـه وبعث بـه إلى السلطان، وأمن أهل المدينة والعسكر.

  ذكر انتقال السلطان لنـهر الكنك وقيام عين الملك

صفحة : قد الوان زاده 245

  ولما استولى القحط على البلاد، انتقل السلطان بعساكره إلى نـهر الكنك الذي تحج إليه الهنود، على مسيرة عشرة من دهلي، وأمر الناس بالبناء، وكانوا قبل ذلك صنعوا خياما من حشيش الأرض، فكانت النار كثيرا ما تقع فيها وتؤذي الناس، حتى كانوا يصنعون كهوفا تحت الأرض، فإذا وقعت النار رموا أمتعتهم بها وسدوا عليها بالتراب. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان، وكانت البلاد التي بغربي النـهر حيث السلطان شديدة القحط، والبلاد التي بشرقيه خصبة، وأميرها عين الملك بن ماهر. ومنـها مدينة عوض، ومدينة ظفر آباد، ومدينة اللكنو، وغيرها. وكان الأمير عين الملك كل يوم يحضر خمسين ألف من، منـها قمح وأرز وحمص لعلف الدواب. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك، وأوصى عين الملك بحفظها. وكان لعين الملك أربعة إخوة، وهم شـهر الله ونصر الله وفضل الله، ولا أذكر اسم الآخر، فاتفقوا مع أخيهم عين الملك أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه، ويبايعوا عين الملك، ويقوموا على السلطان. وهرب إليهم عين الملك بالليل، وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنـه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكا له يكون عينا عليه، ويعرفه بجميع حاله، ويجعل أيضا جواري في الدور يكن عيونا له على أمرائه، ونسوة يسميهن الكناسات، يدخلن الدور بلا استئذان، ويخبرهن الجواري بما عندهن، فتخبر الكناسات بذلك المخبرين، فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشـه مع زوجته، فأراد مماستها، فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل، فلم يسمع منـها، فبعث إليه السلطان صباحا، وأخبره بذلك، وكان سبب هلاكه.

صفحة : 246

  وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه، هو عين على عين الملك المذكور، فأخبر السلطان بفراره وجوازه النـهر، فسقط في يده، وظن أنـها القاضية عليه، لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك، وعساكر السلطان مفترقة، فأراد أن يقصد حضرته ويجمع العساكر، وحينئذ يأتي لقتاله. وشاور أرباب الدولة في ذلك. وكان أمراء خراسان والغرباء أشد الناس خوفا من هذا القائم، لأنـه هندي، وأهل الهند مبغضون في الغرباء، لإظهار السلطان لهم، فكرهوا ما ظهر له، وقالوا: يا خوند عالم، إن فعلت ذلك بلغه الخبر، فاشتد أمره ورتب العساكر، وانثال عليه طلاب الشر ودعاة الفتن، والأولى معالجته قبل استحكام قوته. وكان أول من تكلم بهذا ناصر الدين مطهر الأوهري، ووافقه جميعهم. ففعل السلطان بإشارتهم. وكتب تلك اللية إلى من قرب منـه من الأمراء والعساكر، فأتوا من حينـهم. وأدار في ذلك حيلة حسنة، فكان إذا قدم على محلته مثلا مائة فارس، بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلا، ودخلوا معهم إلى المحلة، كأن جميعهم مدد له.وتحرك السلطان مع ساحل النـهر، ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره، ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها. وبينـها وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام. فرحل أول مرحلة، وقد عبأ جيشـه للحرب، وجعلهم صفا واحدا، عند نزولهم كل واحد منـهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه، ومعه خباء صغير يأكل بـه ويتوضأ، ويعود إلى مجلسه. والمحلة الكبرى على بعد منـهم. ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء، ولا استظل بظلم. وكنت في يوم منـها بخبائي، فصاح بي فتى من فتياني اسمـه سنبل، واستعجلني، وكان معي الجواري، فخرجت إليه. فقال: إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته، فشفع عنده الأمراء. فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة أمرأة، وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال، يقال له كنبيل. فلم تبق امرأة بالمحلة، ولا مع السلطان. وبتنا تلك الليلة على تعبئة، فلما كان في اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجا، وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة، عليها الأبراج، فوقها المقاتلة، وتدرع العسكر، وتهيأوا للحرب. وباتوا تلك الليلة على أهبة. ولما كان اليوم الثالث، بلغ الخبر بأن عين الملك الثائر جاز النـهر، فخاف السلطان من ذلك، وتوقع أنـه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان، فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه، وبعث لي حظا منـها. وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان، فأعطيته فرسا منـها أشـهب اللون. فلما حركه جمح به، فلم يستطع إمساكه، ورماه عن ظهره فمات رحمـه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره، فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج، وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها. وبات ليلته تلك، يرتب الناس بنفسه، ووقف علينا، ونحن في المقدمة مع ابن ملك فيروز، ومعنا الأمير غدا ابن مـهنا، والسيد ناصر الدين مطهر، وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه وقال: أنتم أعزة علي، ينبغي أن تفارقوني. وكان في عاقبة ذلك الخير، فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة، وفيها الوزير خواجه جهان، فقامت ضجة في الناس كبيرة، فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد من مكانـه، ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف.

صفحة : 247

  فاستل العسكر سيوفهم، ونـهضوا إلى أصحابهم. وحمي القتال، وأمر السلطان أن يكون شعار جيشـه دهلي وغزنة. فإذا لقي أحدهم فرسا قال له: دهلي. فإن أجابه بغزنة، علم أنـه من أصحابه، وإلا قاتله، وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان، فأخطأ بـه الدليل، فقصد موضع الوزير، فضرب عنق الدليل. وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون، وهم أعداء الهنود، فصدقوا القتال. وكان جيش القائم نحو الخمسين ألفا، فانـهزموا عند طلوع الفجر. وكان الملك إبراهيم المعروف بالبنجي  بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم  التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة، وهي قرية من بلاد عين الملك، فاتفق معه على الخلاف، وجعله نائبه. وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضا، وجعل داود حاجبه. وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمـه أقبح شتم، والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامـه. فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري: ماذا ترى يا ملك إبراهيم  قد فر أكثر العسكر وذوو النجدة منـهم، فهل لك أن ننجو بأنفسنا  فقال إبراهيم لأصحابه بلسانـهم: إذا أراد عين الملك أن يفر، فإني سأقبض على دبوقته. فإذا فعلت ذلك، فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض، فنقبض عليه، ونأتي بـه إلى السلطان، ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه، وسببا لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار، قال له إبراهيم: إلى أين يا سلطان علاء الدين  وكان يسمى بذلك، وأمسك بدبوقته، وضرب أصحابه فرسه، فسقط على الأرض، ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه، وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال: لا أتركه حتى أوصله للوزير، أو أموت دون ذلك، فتركوه، فأوصله إلى الوزير. وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان. ثم جاءني بعض العراقيين فقال: قد قبض على عين الملك، وأتى بـه الوزير، فلم أصدقه. فلم يمر إلا يسير، وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال: أبشر، فقد قبض على عين الملك، وهو عند الوزير. فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على على نـهر الكنك، فنـهبت العساكر ما فيها، واقتحم كثير من عسكر عين الملك النـهر فغرقوا. وأخذوا داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم، ونـهبت الأموال والخيل والأمتعة. ونزل السلطان على المجاز، وجاء الوزير بعين الملك، وقد أركب على ثور، وهوو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه، فوقف على باب السراجة، ودخل الوزير إلى السلطان، فأعطاه الشربة عناية به.

 وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونـه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه. وبعث إليه السلطان الملك الكبير، فقال له: ما هذا الذي فعلت  فلم يجد جوابا. فأمر بـه السلطان أن يكسى ثوبا من ثياب الزمالة، وقيد بأربعة كبول، وغلت يداه إلى عنقه، وسلم للوزير ليحفظه. وجاز إخوته النـهر هاربين، ووصلوا مدينة عوض، فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه من المال، وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك: اخلصي بنفسك، وبنوك معنا. فقالت: أفلا أكون كنساء الكفار اللاتي يحرقن أنفسهن مع أوزواجهن  فأنا أيضا أموت لموت زوجي، وأعيش لعيشـه، فتركوها. وبلغ ذلك السلطان، فكان سبب خيرها، وأدركته لها رقة، وأدرك الفتى سهيل نصر الله من أولئك الإخوة فقتله، وأتىالسلطان برأسه. وأتى بأم عين الملك وأخته وامرأته فسلمن إلى الوزير، وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك. فكان يدخل إليهن، ويجلس معهن، ويعود إلى محبسه. ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة، أمر السلطان بسراح لفيف من الناس الذي مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به، وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه، فقال ملك العسكر الملك نوا: يا خوند عالم، أقتل هذا، فإنـه من المخالفين. فقال الوزير: إنـه قد فدى نفسه بالقائم، فعفا عنـه السلطان وسرحه إلى بلاده.

 ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب، وأتى باثنين وستين رجلا من كبار أصحاب القائم، وأتى بالفيلة، فطرحوا بين أيديها، فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها، وترمي ببعضهم إلى الهواء، وتتلقفه. والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك، وعين الملك واقف يعاين مقتلهم، ويطرح منـهم عليه، ثم أعيد إلى محبسه.

صفحة : 248

  وأقام السلطان على جواز النـهر أياما لكثرة الناس وقلة القوارب. وأجاز أمتعته وخزائنـه على الفيلة، وفرق الفيلة على خواصه، ليجيزوا أمتعتهم، وبعث إلي بفيل منـها أجزت عليه رحلي. وقصد السلطان ونحن معه إلى مدينة بهرايج  وضبط اسمـها بفتح الباء المحدة وهاء مسكن وراء وألف وياء آخر الحروف مكسورة وجيم  ، وهي مدينة في عدوة نـهر السرو، وهو واد كبير شديد الانحدار، وأجازه السلطان برسم زيارة قبر الشيخ الصالح البطل سالار عود، الذي فتح أكثر تلك البلاد، وله أخبار عجيبة وغزوات شـهيرة. وتكاثر الناس للجواز وتزاحموا، حتى غرق مركب كبير كان فيه نحو ثلاثمائة نفس، لم ينج منـهم إلا أعرابي من أصحاب الأمير غدا، وكنا ركبنا نحن مركبا صغيرا، فسلمنا الله تعالى. وكان العربي الذي سلم من الغرق يسمى بسالم، وذلك اتفاق عجيب.

 وكان أراد أن يصعد معنا في مركبنا، فوجدنا قد ركبنا النـهر، فركب في المركب الذي غرق. فلما خرج، ظن الناس أنـه كان معنا. فقامت ضجة في أصحابنا وفي سائر الناس، وتوهموا أنا غرقنا. ثم لما رأونا بعد استبشروا بسلامتنا. وزرنا قبر الصالح المذكور، وهو في قبة لم نجد سبيلا إلى ها لكثرة الزحام. وفي تلك الوجهة دخلنا غيضة قصب، فخرج علينا منـها الكركدن، فقتل وأتى الناس برأسه. وهو دون الفيل، ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف، وقد ذكرناه.

  ذكر عودة السلطان لحضرته ومخالفة علي شاه كر

 ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا، عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف، وعفا عن عين الملك، وعفا أيضا عن نصرة خان القائم ببلاد التلنك، وجعلهما معا على عمل واحد، وهو النظر على بساتين السلطان. وكساهما وأركبهما، وعين لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم. وبلغ الخبر بعد ذلك أن أحد أصحاب قطلوخان، وهو علي شاه كر، ومعنى كر الأطرش، خالف على السلطان. وكان شجاعا حسن الصورة والسيرة، فغلب على بدر كوت، وجعلها مدينة ملكه. وخرجت العساكر إليه، وأمر السلطان معلمـه أن يخرج إلى قتاله، فخرج في عساكر عظيمة، وحصره ببدر كوت، ونقبت أبراجها، واشتدت بـه الحال، فطلب الأمان فأمنـه قطلوخان، وبعث بـه إلى السلطان مقيدا، فعفا عنـه ونفاه إلى مدينة غزنة من طرف خراسان، فأقام بها مدة. ثم اشتاق إلى وطنـه، فأراد العودة إليه، لما قضاه الله من حينـه، فقبض عليه ببلاد السند، وأتي بـه السلطان. فقال له: إنما جئت لتثير الفساد ثانية، وأمر بـه فضربت عنقه.

  ذكر فرار أمير بخت وأخذه

صفحة : 249

  وكان السلطان قد وجد على أمير بخت الملقب بشرف الملك، أحد الذين وفدوا معنا على السلطان، فحط مرتبه من أربعين ألفا إلى ألف واحد، وبعثه في خدمة الوزير إلى دهلي. فاتفق أن مات أمير عبد الله الهروي في الوباء في التلنك، وكان ماله عند أصحابه بدهلي، فاتفقوا مع أمير بخت على الهروب. فلما خرج الوزير من دهلي إلى لقاء السلطان، هربوا مع أمير بخت وأصحابه، ووصلوا إلى أرض السند في سبعة أيام، وهو مسيرة أربعين يوما وكان معهم الخيل مجنوبة، وعزموا على أن يقطعوا نـهر السند عوما، ويركب أمير بخت وولده ومن لا يحسن العوم في معدية قصب يصنعونـها، وكانوا قد أعدوا حبالا من الحرير برسم ذلك. فلما وصلوا إلى النـهر خافوا من عبوره بالعوم، فبعثوا رجلين منـهم إلى جلال الدين صاحب مدينة أوجه، فقالا له: إن ها هنا تجارا أرادوا أن يعبروا النـهر، وقد بعثوا إليك بهذا السرج، لتبيح لهم الجواز، فأنكر أمير أن يعطى التجار مثل ذلك السرج، وأمر بالقبض على الرجلين. ففر أحدهما، ولحق بشرف الملك وأصحابه، وهم نيام لما لحقهم من الإعياء ومواصلة السهر، فأخبرهم الخبر، فركبوا مذعورين وفروا، وأمر جلال الدين نائبه، فركب في العسكر، وقصدوا نحوهم. فوجدوهم قد ركبوا، فاقتفوا أثرهم فأدركوهم. فرموا العسكر بالنشاب، ورمى طاهر بن شرف الملك نائب الأمير جلال الدين بسهم، فأثبته في ذراعه، وغلب عليهم، فأتى بهم إلى جلال الدين، فقيدهم وغل أيديهم، وكتب إلى الوزير في شأنـهم. فأمر الوزير أن يبعثهم إلى الحضرة، فبعثهم إليها. وسجنوا بها، فمات طاهر في السجن. فأمر السلطان أن يضرب شرف الملك مائة مقرعة في كل يوم، فبقي على ذلك مدة، ثم عفا عنـه. وبعثه مع الأمير نظام الدين أمير نجلة إلى بلاد جنديري، فانتهت حاله إلى أن كان يركب البقر، ولم يكن له فرسه يركبه. وأقام على ذلك مدة، ثم وفد ذلك الامير على السلطان وهو معه. فجعله السلطان شاشنكير  جاشنكير  ، وهو الذي يقطع اللحم بين يدي السلطان. ويمشي مع الطعام. ثم إنـه بعد ذلك نوه بـه ورفع مقداره. وانتهت حاله إلى أن مرض. فزاره السلطان وأمر بوزنـه بالذهب، وأعطاه ذلك. وقد قدمنا هذه الحكاية في السفر الأول. وبعد ذلك زوجه بأخته وأعطاه بلاد جنديري التي كان بها البقر في خدمة الأمير نظام الدين. فسبحان مقلب الأرض ومحول الأحوال.

  ذكر خلاف شاه أفغان بأرض السند

 وكان شاه أفغان خالف على السلطان بأرض ملتان من بلاد السند، وقتل الأمير بها، وكان يسمى بـه زاد، وادعى السلطنة لنفسه. وتجهز السلطان لقتاله، فعلم أنـه لا يقاومـه. فهرب ولحق بقومـه الأفغان، وهم ساكنون بجبال منيعة لا يقدر عليها، فاغتاظ السلطان مما فعله، وكتب إلى عماله أن يقبضوا على من وجدوه من الأفغان ببلاده، فكان ذلك سببا لخلاف القاضي جلال.

  ذكر خلاف القاضي جلال

صفحة : 250

  وكان القاضي جلال وجماعة من الأفغانيين قاطنين بمقربة من مدينة كنباية ومدينة بلوذرة، فلما كتب السلطان إلى عماله بالقبض على الأفغانيين كتب إلى ملك مقبل نائب الوزير ببلاد الجزرات ونـهر واله، أن يحتال في القبض على القاضي جلابل ومن معه. وكانت بلاد بلوذرة إقطاعا لملك الحكماء، وكان ملك الحكماء متزوجا بربيبة السلطان زوجة أبيه تغلق، ولها بنت من تغلق هي التي تزوجها الأمير غدا. وملك الحكماء إذ ذاك في صحبة مقبل، لأن بلاده تحت نظره. فلما وصلوا إلى بلاد الجزرات أمر مقبل ملك الحكماء أن يأتي بالقاضي جلال وأصحابه. فلما وصل ملك الحكماء إلى بلاده حذرهم في خفية، لأنـهم كانوا من أهل بلاده، وقال: إن مقبلا طلبكم ليقبض عليكم فلا تدخلوا عليه إلا بالسلاح، فركبوا في نحو ثلاثمائة مدرع وأتوه وقالوا: لا ندخل إلا جملة. فظهر له أنـه لا يمكن القبض عليهم وهم مجتمعون، وخاف منـهم. فأمرهم الرجوع، وأظهر تأمينـهم. فخلفوا عليه، ودخلوا مدينة كنباية، ونـهبوا خزانة السلطان بها، وأموال الناس، ونـهبوا مال ابن الكومي التاجر، وهو الذي عمر المدرسة الحسنة بإسكندرية، وسنذكره إثر هذا. وجاء ملك مقبل لقتالهم فهزموه هزيمة شنيعة. وجاء الملك عزيز الخمار والملك جهان بنبل لقتالهم في سبعة آلاف من الفرسان، فهزموه أيضا، وتسامع بهم أهل الفساد والجرائم فانثالوا عليهم. وادعى القاضي جلال السلطنة، وبايعه أصحابه. وبعث السلطان إليه العساكر فهزمـها. وكان بدولة أباد جماعة من الأفغان فخالفوا أيضا.

  ذكر خلاف ابن الملك مل

 وكان ابن الملك مل ساكنا بدولة آباد في بعض من الأفغان، فكتب السلطان إلى نائبه بها، وهو نظام الدين أخو معلمـه قطلوخان أن يقبض عليهم، وبعث إليه بأجمال كثيرة من القيود والسلاسل، وبعث بخلع الشتاء. وعادة ملك الهند أن يبعث لكل أمير على مدينة، ولوجوهخلعتين في السنة: واحدة للشتاء والثانية للصيف. وإذا جاءت الخلع، يخرج الأمير والجند للقائها. فإذا وصولوا إلى الآتي بها نزلوا عن دوابهم، وأخذ كل واحد خلعته، وحملها على كتفه وخدم لجهة السلطان. وكتب السلطان لنظام الدين إذا خرج الأفغان ونزلوا عن دوابهم لأخذ الخلع فاقبض عليهم عند ذلك. وأتى أحد الفرسان الذين أوصلوا الخلع إلى الأفغان، فأخبرهم بما يراد بهم. فكان نظام الدين ممن احتال، فانعكست عليه، فركب وركب الأفغان معه حتى إذا لقوا الخلع، ونزل نظام الدين عن فرسه، حملوا عليه وأصحابه، فقبضوا عليه وقتلوا كثيرا من أصحابه، ودخلوا المدينة فاستولوا على الخزائن، وقدموا على أنفسهم ناصر الدين ابن ملك مل، وانثال عليهم المفسدون، فقويت شوكتهم.

  ذكر خروج السلطان بنفسه إلى كنباية

صفحة : 251

  ولما علم السلطان ما فعله الأفغان بكنباية ودولة آباد، خرج بنفسه، وعزم أن يبدأ بكنباية، ثم يعود إلى دولة آباد. وبعث أعظم ملك البايزيدي صهره في أربعة آلاف مقدمة، فاستقبله جند القاضي جلال، فهزموه وحصروه ببلوذرة، وقاتلوه بها. وكان في جند القاضي جلال شيخ يسمى جلول، وهو أحد الشجعان. فلا يزال يفتك في الجند ويقتل، ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته. واتفق يوما أنـه دفع فرسه، فكبا بـه في حفرة فسقط عنـه وقتل. ووجدوا عليه درعين، فبعثوا برأسه إلى السلطان، وصلبوا جسده بسور بلوذرة، وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد. ثم وصل السلطان ب فلم يكن للقاضي جلال من ثبات، ففر في أصحابه، وتركوا أموالهم وأولادهم، فنـهب ذلك كله، ودخلت المدينة، وأقام بها السلطان أياما ثم رحل عنـها، وترك بها صهره شرف الملك أمير بخت الذي قدمنا ذكره، وقضية فراره وأخذه بالسند وسجنـه، وما جرى له من الذل، ثم من العز. وأمره بالبحث عمن كان في طاعة جلال الدين، وترك معه الفقهاء ليحكم بأقوالهم. فأدى ذلك إلى قتل الشيخ علي الحيدري حسبما قدمناه. ولما هرب القاضي جلال لحق بناصر الدين ملك مل بدولة آباد، ودخل في جملته. فأتى السلطان بنفسه إليهم، واجتمعوا في نحو أربعين ألفا من الأفغان والترك والهنود والعبيد، وتحالفوا على أن لا يفروا، وأن يقاتلوا السلطان. وأتى السلطان لقتالهم ولم يرفع الشطر الذي هو علامته. فلما استحر القتال رفع الشطر، ولما عاينوه دهشوا وانـهزموا أقبح هزيمة. ولجأ ابن ملك مل والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدويقير، وسنذكرها وهي من أمنع القلاع في الدنيا، واستقر السلطان بمدينة دولة آباد والدويقير هي قلعتها. وبعث لهم أن ينزلوا على حكمـه فأبوا أن ينزلوا إلاعلى الأمان. فأبى السلطان أن يؤمنـهم، وبعث لهم الأطعمة تهاونا بهم، وأقام هنالك. وهذا آخر عهدي بهم.

  ذكر قتال مقبل وابن الكولمي

 وكان ذلك قبل خروج القاضي جلال وخلافه. وكان تاج الدين الكولمي من كبار التجار، فنزل على السلطان من أرض الترك بهدايا جليلة، منـها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب. فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثني عشر لكا، ويذكر أنـه لم تكن قيمة هديته إلا لكا واحدا. وولاه مدينة كنباية. وكانت لنظر الملك المقبل نائب الوزير، ووصل إليها، وبعث السفن إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها. وجاءته التحف والهدايا في السفن، وعظمت حاله، ولما لم يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة، بعث الملك مقبل إلى ابن الكولمي أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة. امتنع ابن الكولمي عن ذلك وقال: أنا أحملها بنفسي، أو أبعثها مع خدامي، ولا حكم لنائب الوزير علي ولا للوزير، واغتر بما أولاه السلطان من الكرامة والعطية. فكتب مقبل إلى الوزير بذلك، فوقع له الوزير على ظهر كتابه: إن كنت عاجزا عن بلادنا فاتركها وراجع إلينا.

 ولما وصله الجواب تجهز فيومماليكه، والتقيا بظاهر كنباية. فانـهزم الكولمي، وقتل جملة من الفريقين. واستخفى ابن الكولمي في دار الناخوذة  الناخذا  ، إلياس أحد كبراء التجار.

 ودخل مقبل المدينة فضرب رقاب جند ابن الكولمي، وبعث له الأمان نظير أن يأخذ ماله المختص بـه ويترك مال السلطان وهديته ومجبى البلد، وبعث مقبل بذلك كله مع خدامـه إلى السلطان، وكتب شاكيا من ابن الكولمي، وكتب ابن الكولمي شاكيا منـه. وبعث السلطان ملك الحكماء ليتنصف بينـهما. وبأثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين. فنـهب مال ابن الكولمي، وهرب ابن الكولمي في بعض مماليكه ولحق بالسلطان.

  ذكر الغلاء الواقع بأرض الهند

صفحة : 252

  وفي مدة غياب السلطان عن حضرته، إذ خرج يقصد بلاد المعبر، وقع الغلاء، واشتد الأمر، وانتهى المن إلى ستين درهما، ثم زاد على ذلك. وضاقت الأحوال، وعظم الخطب، ولقد خرجت مرة إلى لقاء الوزير، فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعا من جلد فرس مات منذ أشـهر ويأكلنـه. وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق. وكان الناس إذا ذبحت البقر، أخذوا دماءها فأكلوها. وحدثني بعض طلبة خراسان أنـهم دخلوا بلدة تسمى أكروهة، بين حانسي وسرستي فوجدوها خالية، فقصدوا بعض المنازل ليبيتو به، فوجدوا في بعض بيوته رجلا قد أضرم نارا، وبيده رجل آدمي، وهو يشويها في النار ويأكل منـها، والعياذ بالله. ولما اشتد الحال، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفطة ستة أشـهر. فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس، ويعطون لكل أحد نفقة ستة أشـهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. وكنت في تلك المدة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين، حسبما يذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك. و الله تعالى ينفع بالقصد فيه. وإذ قد ذكرنا من أخبار السلطان، وما كان في أيامـه من الحوادث ما فيه الكفاية، فلنعد إلى ما يخصنا من ذلك، ونذكر كيفية وصولنا أولا إلى حضرته، وتنقل الحال إلى خروجنا عن الخدمة، ثم خروجنا عن السلطان في الرسالة إلى الصين، وعودنا منـها إلى بلادنا، إن شاء الله تعالى.

  ذكر وصولنا إلى دار السلطان وعند قدومنا وهو غائب

 ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان، ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث، ووجدنا عليه النقباء، وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع، فوجدنا بـه الوزير خواجه جهان ينتظرنا. فتقدم ضياء الدين خداوند زاده، ثم تلا أخوه قوام الدين، ثم أخوهما عماد الدين، ثم تلوتهم، ثم تلاني أخوهم برهان الدين، ثم الأمير مبارك السمرقندي، ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خدواند زاده، ثم بدر الدين الفصال.

 ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون  استون  ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام. فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض، وخدمنا نحن بالركوع، وأوصلنا أصابعنا إلى الأرض، وخدمتنا لناحية سرير السلطان، وخدم جميع من معنا. فلما فرغنا من الخدمة، صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله، وخرجنا.

  ذكر وصولنا لدار أم السلطان

  وذكر فضائلها

 وأم السلطان تدعى المخدومة جهان، وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر. وهي مكفوفة البصر، وسبب ذلك انـه لما ملك ابنـها، جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي، وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر، فخدمن بين يديها جميعا، فذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس برا بها. ومن بره أنـها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة، فلما قدمت خرج لاستقبالها، وترجل عن فرسه وقبل رجلها، وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.

 ولنعد لما قصدناه فنقول، ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف، وهم يسمونـه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدومة جهان. فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب، وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله.

 ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان، فخدم الوزير والقاضي عند بابها، وخدمنا كخدمتهم، وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر، ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام، وأوتوا بقلال من الذهب يسمونـها السين  بضم السين والياء أخر الحروف  ، وهي مثل القدور، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها، يسمونـها السبك  بضم السين وضم الباء الموحدة  وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب، وجعلوا الطعام سماطين، وعلى كل سماط صفان. ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين.

صفحة : 253

  ولما تقدمنا للطعام، خدم الحجاب والنقباء، وخدمنا لخدمتهم. ثم أتوا بالشربة فشربنا. وقال الحجاب: بسم الله، ثم أكلنا، وأتوا بالفقاع والتنبول. وقال الحجاب: بسم الله، فخدمنا جميعا. ثم دعينا إلى موضع هنالك، فخلع علينا حلل الحرير المذهبة، وأتوا بنا إلى باب القصر، تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان. فأعطي كل واحد منا نصيبه منـها. ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وبطيفور مثله فيه الجلاب، وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك، يأخذ الطيفور بيده، ويجعله على كاهله، ويخدمـه بيده الثانية إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناسا منـه وتواضعا ومبرة، جزاه الله الخير. ففعلت كما فعل، وانصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي، وبمقربة من دروازة بالم منـها، وبعث لنا الضيافة.

  ذكر الضيافة

 ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد، وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل، يحمل السرير منـها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر، يحمله غلامـه على رأسه، وهو أربع قوائم مخروطة، يعرض عليها أربعة أعواد، وتنسج عليها ضفائر من الحرير والقطن، فإذا نام الانسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به، لأنـه يعطي الرطوبة من ذاته. وجاءوا مع السرير بمضربين ومخدتين ولحاف، كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف  اللحف  وجوها تغشيها وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونـه الخراص والثاني الجزار ويسمونـه القصاب فقالوا لنا خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق، ومن هذا كذا وكذا من اللحم، لأوزان لا أذكرها الآن وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق، وهذا الذي ذكرناه في ضيافة أم السلطان، وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غير ذلك اليوم ركبنا إلى دار السلطان، وسلمنا على الوزير، فأعطاني بدرتين، كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتي  شستي  ومعناه لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز، وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منـها أعطي كل واحد منـها مائتي دينار، والصنف الثاني أعطي كل واحد منـهم مائة وخمسين دينارا والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار، والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين دينارا، وكانوا نحو أربعين وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفا، وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان، وهي ألف رطل هندية من الدقيق، ثلثها من الميرا وهو الدرمك، وثلثاها من الخشكار وهو المدهون، وألف رطل من اللحم، ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة، لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلا من أرطال المغرب، وخمسة وعشرون من أرطال مصر، وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق، ومثلها من اللحم، مع ما يناسبها مما ذكرناه.

 ذكر وفاة بنتي وما فعلوا في ذلك ولما كان بعد شـهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنـها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير، فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم، بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي، فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني، وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنـه، ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير، ويجعلون على القبر الأزاهير، وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه  كل شبو  وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها، وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منـها حبات بالخيوط، ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرأون القرآن، فإذا ختموا أتوا بماء الجلاب فسقوه الناس، ثم يصب عليهم ماء الورد صبا، ويعطون التنبول وينصرفون.

صفحة : 254

  ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت، خرجت الصبح على العادة، وأعددت ما تيسر من ذلك كله، فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك، وأمر بسراجة فضربت على القبر، وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند، والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة، ولم آت إلا والقوم المذكورون، قد أخذوا مجالسهم، والحاجب بين أيديهم، وهم يقرأون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر. فلما فرغوا من القرأة، قرأ القراء بأصوات حسان، ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة، وثناء على السلطان. وعند ذكر اسمـه قام الناس جميعا قياما فخدموا ثم جلسوا، ودعا القاضي دعاء حسنا، ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس، ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات، ثم فرقوا عليهم التنبول، ثم أتي بإحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان، فخدمنا للسرير على العادة، وانصرفت إلى منزلي فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان، ما ملأ الدار ودور أصحابي، وأكلوا جميعا، وأكل المساكين. وفضلت الأقراص والحلواء والنبات، فأقمت بقاياها أياما، وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان. وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء، ويركبها الرجال وهي شبه السرير، سطحها من ضفائر الحرير والقطن، وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا، معوج من القصب الهندي المغلوق، ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة، ويحمل أربعة، وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر، عليها ينصرف أكثر الناس فمن كان له عبيدا حملوه، ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالا يحملونـه. وبالبلد منـهم جماعة يسيرة، يقفون في الأسواق وعند باب السلطان، وعند أبواب الناس للكري، وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير. وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان، فحملوا فيها جاريتي، وهي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فاقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة، وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم، وأساور ذهب مرصعة، وتهليلا من الذهب مرصعا وقميص كتان مزركشا بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختا بأثواب ولما جاءت بذلك أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين، محافظة على نفسي، وصونا لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.

  ذكر إحسان السلطان والوزير

  في أيام غيبة السلطان عن الحضرة

 وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة آلاف دينار في السنة، فعينـها لي الوزير وأهل الديوان، وخرجت إليها فمنـها قرية تسمى بدلي  بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المـهملة وكسر اللام  وقرية تسمى بسهي  بفتح الباء الموحدة والسين المـهمل وكسر الهاء  ونصف قرية تسمى بلرة  بفتح الباء الموحدة واللام والراء  ، وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروها، وهو الميل، بصدي يعرف بصدي هندبت، والصدي عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدي له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد، ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها. وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار، فبعث الوزير إلي عشر جوار منـه، فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منـهن، فلما رضي بذلك، وأخذ أصحابي ثلاثا صغارا منـهن، وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن، لأنـهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحد إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار، ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف، ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار، وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض، وهي لهم مثل السور، وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم، ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم الا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض، ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك.

  ذكر العيد الذي شـهدته أيام غيبة السلطان

صفحة : 255

  وأطل عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة، فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل، وقد مـهد له على ظهره شبه السرير، وركزت أربعة أعلام في أركانـه الأربعة، وليس الخطيب ثياب السود، وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامـه، وفقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلى صيوان قطن، وفرش ببسط، واتجمع الناس ذاكرين الله تعالى. ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم، وانصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام، فحضره الملوك والأمراء، والأعزة وهم الغرباء، وأكلوا وانصرفوا.

  ذكر قدوم السلطان ولقائنا له

 ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر اسمـه تلبت  بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى  ، وهي على مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج اليه فخرجنا، ومع كل انسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر واجتمع جميع القادمين فكانوا يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم، ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب، ولما وصلت إلى النوبة، دخلت فوجدته قاعدا على كرسي، فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكنت عرفته أيام غيبة السلطان، فخدم الحاجب، فخدمت واستقبلني أمير حاجب، وهو ابن عم السلطان فيروز، وخدمت ثانية لخدمته، ثم قال لي ملك الندماء بسم الله، مولانا بدر الدين. وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخطابني بأحسن خطاب، ويقول لي بالفارسي، حلت البركة، قدومك مبارك، اجمع خاطرك، اعمل معك من المراحم، وأعطيك من الأنعام، ما يسمع بـه أهل بلادك، فيأتون إليك. ثم سألني عن بلادي فقلت له: بلاد المغرب فقال لي: بلاد عبد المؤمن  فقلت له: نعم. وكان كلما قال لي كلاما جيدا قبلت يده حتى قبلتها سبع مرات. وخلع علي، وانصرفت واجتمع الواردون، فمد لهم سماط. ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي، وعماد الملك عرض المماليك، والملك جلال الدين الكيجي، وجماعة من الحجاب والامراء، وحضر كذلك خداوند زاده غياث الدين، ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا، وكان السلطان يعظمـه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مرارا من بلاده. والواردون الذين خلع عليهم في ذلك اليوم هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن أخيه أمير بخت ابن السيد تاج الدين، وكان جده وجيه الدين وزير خراسان، وكان علاء الدين أمير هند ووزيرا أيضا، والأمير هبة الله ابن الفلكي التبريزي، وكان أبوه نائب الوزير بالعراق، وهو الذي بنى المدرسة الفلكية بتبريز، وملك كراي من أولاد بهرام جور  جوبين  صاحب كسرى، وهو من أهل جبل بدخشان الذي منـه يجلب الياقوت البلخش واللازورد، والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري، وملك زاده الترمذي، وشـهاب الدين الكازروني، التاجر الذي قدم تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه.

  ذكر السلطان إلى حضرته

  وما أمر لنا بـه من المراكب

 وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرسا من مراكب السلطان، عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان ل حضرته، وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان، وزينت الفيلة أمام السلطان، وجعلت عليها الأعلام، ورفعت عليها ستة عشر شطرا، منـها مزركشة، ومنـها مرصعة، ورفع فوق رأس السلطان شطر منـها، وحملت أمامـه الغاشية، وهي ستارة مرصعة، وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار، فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة، قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة، والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك. ولم يزالوا ينثرونـها إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك.

  ذكر نا اليه وما أنعم بـه من الإحسان والولاية

صفحة : 256

  ولما كان يوم الجمعة، ثاني يوم السلطان، أتينا باب المشور، فجلسنا في سقائف الباب الثالث، ولم يكن الإذن حصل لنا بال، وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي، فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا، وأذن لهم في نا، و بعض أصحابنا، وعين لل معي ثمانية، فدخلنا ودخلوا معنا، ثم جاءوا بالبدر والقبان، وهو الميزان، وقعد قاضي القضاة والكتاب، ودعوا من بالباب من الأعزة وهم الغرباء، فعينوا لكل نصيبه من تلك البدر، فحصل لي خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار، تصدقت بـه أم السلطان لما قدم ابنـها، وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه، ويسأل عن أحوالنا، ويخاطبنا بأجمل الكلام ولقد قال لنا في بعض الأيام: أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافأتكم فالكبير منكم مقام والدي، والكهل مقام أخي، والصغير مقام ولدي، وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له.

 ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة، وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل، إحداهما قرية جوزة، والثانية قرية ملك بور، وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده، وغياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا: إن خوند عالم يقول لكم: من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاة أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك فسكت الجميع لأنـهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم، وتكلم أمير بخت ابن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي، وغير ذلك لا أعرفه.

 وتكلم هبة الله الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خداوند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي  وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد ، وبذلك يخاطبه السلطان، تعظيما للعرب، فقلت له: أما الوزارة والكتابة فليست شغلي، وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي، وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب، فلما بلغ ذلك السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام، فبعث عنا، فأكلنا بين يديه، وهو يأكل، ثم انصرفنا إلى خارج هزار اسطون، فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس، فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي، واعتذر واله عني بعد صلاة العصر، فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة، ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خداوند زاده ضياء الدين، وهو أكبر الإخوة المذكورين، فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار، فجلس بمجلس القاضي. فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه، وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة، عين له مجاشر فائدها ذلك المقدار، فأمر له بخمسين ألفا عن يد، وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير، ومعناه صورة السبع، لأنـه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع، وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار مازركش فيها من الذهب، وأمر له بفرس من الجنس الأول، والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر، ويكسون أعظمـها بالفضة المذهبة، ثم دخل أمير بخت، فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده، ويقف على محاسبات الدواوين وعين له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر فائدها بمقدار ذلك، وأعطى أربعين ألفا عن يد، وأعطى فرسا مجهزا، وخلع عليه كخلعة الذي قبله، ولقب شرف الملك.

صفحة : 257

  ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار، ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتبا أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك وأعطى أربعة وعشرين ألفا عن يد وأعطى فرسا مجهزا وخلعة، وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستندا إلى السرير، والوزير خواجه جهان بين يديه، والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه، قال لي الملك الكبير: أخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي، وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة، وعين لك مجاشر بمقدارها، وأمر لك باثني عشر ألفا نقدا تأخذها من الخزانة غدا إن شاء الله، وأعطاك فرسا بسرجه ولجامـه، وأمر لك بخلعة محاربي، وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب، فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان، فقال لي السلطان: لا تحسب قضاء دهلي من أصغر الأشغال، هو أكبر الأشغال عندنا، وكنت أفهم قوله، ولا أحسن الجواب عنـه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنـه، فقلت له: يا مولانا أنا على مذهب مالك،، وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف إنسانا فقال لي: قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك، وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد، فقلت له: بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي، بل أنت سيدنا ومخدومنا، تواضعا منـه وفضلا وإيناسا، ثم قال لشرف الملك أمير بخت، إن كان الذي ترتب له لا يكفيه لأنـه كثير الإنفاق، فأنا أعطيه زاوية إن قجر على إقامة حال الفقراء، وقال: قل له هذا بالعربي، وكان يظن أنـه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له: برو ويكجا بخصبي  بخسبي  وآن حكاية بروابكوي وتفهيم كني  بكني  تافردا إن شاء الله بيش من بيايي  و  جواب أو بكري  بكوي  معناه: امشوا الليلة فارقدوا في موضع واحد، وفهمـه هذه الحكاية، فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء إلي وتعلمني بكلامـه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل، وقد ضربت النوبة. والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج، وخرجنا معه، ووجدنا أبواب دهلي مسدودة فبتننا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي، بزقاق يعرف بسرابور خان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان. ولما كان بالغد بعث عنا، فقبضنا الأموال والخيل والخلع، وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال، فجعلها على كاهله، ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا، وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها، بعد أن جعلت عليها الخرق، وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم، ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابه بألفي دينار وعشر خلع، ولم يعط لأصحاب أحد سواي شيئا وكان أصحابي لهم رواء ومنظر، فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.

  ذكر عطاء ثان أمر لي بـه وتوقفه مدة

صفحة : 258

  وكنت يوما بالمشور، بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك، وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ، فأتى بعض الحجاب فدعا مولانا ناصر الدين، فدخل إلى السلطان، فخلع عليه، وأعطاه مصحفا مكللا بالجوهر، ثم أتاني بعض الحجاب فقال: أعطني شيئا وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفا، أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي، وهو مجد في كلامـه، فقال بعض الأصحاب: أنا أعطيه، فأعطاه دينارين أو ثلاثة، وجاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوبا بتعريف الحاجب، ومعناه أمر خوند عالم أن يعطي من الخزانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه، ويكتب المبلغ اسمـه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء: وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان، والخريطة دار وهو صاحب وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام، والأمير نكبية الدوادار صاحب الدواة، فإذا كتب كل واحد منـهم خطه، تذهب البراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم، ثم تثبت في ديوان الأشراف، ثم تثبتا في ديوان النظر، ثم تكتب البراونة، وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء، ثم يثبتها الخازن في ديوانـه، ويكتب تلخيصا في كل يوم بمبلغ ما أمر بـه السلطان ذلك اليوم من المال، ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك، ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفا ستة أشـهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منـه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألف، أعطي تسعين ألفا، أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف.

  ذكر طلب الغرماء ما لهم قبلي ومدحي للسلطان

  وأمره بخلاص ديني وتوقف ذلك مدة

 وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالا أنفقته في طريقي، وما صنعت بـه الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا علي في طلب ديونـهم فمدحت السلطان في قصيدة طويلة أولها:

  إليك أمير المؤمنين الـمـبـجـلا                      أتينا نجد السير نحوك في الـفـلا

  فجئت محـلا مـن عـلائك زائرا                      ومغناك كهف لـلـزيارة أهـلا

  فلو أن فوق الشمس للمجـد رتـبة                      لكنت لأعلاها إمامـا مـؤهـلا

  فأنت الإمام الماجد الأوحـد الـذي                      سجاياه حتما أن يقـول ويفـعـلا

  ولي حاجة من فيض جودك أرتجي                      قضاها وقصدي عند مجدك سهلا

  أأذكرها أم قد كفانـي حـياؤكـم                      فإن حياكم ذكره كـان أجـمـلا

  فعجل لمن واقى مـحـلـك زائرا                      قضا دينـه إن الغـريم تـعـجـلا

صفحة : 259

  فقدمتها بين يديه، وهو قاهد على كرسي، فجعلها على ركبته، وأمسك طرفها بيده، وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتا منـها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينـه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيد ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت، وهنأني الناس بذلك، وأقمت مدة، وكتبت رفعا، وهم يسمونـه عرض داشت، فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند، فدفعه للسلطان فقال له: امض إلى خواجه جهان فقل له: يعطي دينـه فمضى إليه وأعلمـه، فقال: نعم وأبطأ ذلك أياما وأمره السلطان في خلالها بالسفر إلى دولة آباد وفي أثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد، وسافر الوزير، فلم آخذ شيئا منـها إلا بعد مدة. والسبب الذي توقف بـه عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنـه لما عزم الذي كان لهم علي الدين إلى السفر، قلت لهم: إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني على العادة في تلك البلاد، لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنـهم متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصه وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد ال قال له: دروهي، وحق رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني، فلا يمكنـه ان يبرح من مكانـه حتى يخلصه، أو يرغب إليه في تأخيره. فاتفق يوما أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه، ونزل بقصر هنالك فقلت لهم: هذا وقتكم، فلما أردت ال، وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا. وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان، فخرج حاجب قصة شمس الدين، وكان من كبار الفقهاء، فسألهم لأي شيء درهتموه  فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فأعلمـه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين  فقالوا له خمس وخمسون ألف دينار، فعاد إليه فأعلمـه فأمره أن يعود إليهم، ويقول لهم: إن خوند عالم يقول لكم: المال عندي وأنا أنصفكم منـه فلا تطلبوه بـه وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون، ويأتي أهل الدين بعقودهم، وينظروا إليها، ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلماه بثبوت العقود، فضحك وقال: ممازحا: أنا أعلم أنـه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خداوند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد، فبعثت إليه مائتي تنكة، فردها ولم يأخذها وقال لي عنـه بعض خدامـه: إنـه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك، فأعلم بـه أباه وأعلمـه الوزير، وكانت بينـه وبين خداوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك، وذكر له كثيرا من أفعال خداوند زاده، فغير خاطر السلطان عليه، فأمر بحبسه في المدينة وقال: لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خداوند زاده شيئا إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني.

  ذكر خروج السلطان إلى الصيد وخروجي معه

  وما صنعت في ذلك

صفحة : 260

  ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص، وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه، وعملت ترتيب أهل الهند، فاشتريت سراجة، وهي أفراج. وضربها هنالك مباح ولا بد منـها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونـها حمراء، وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق، واشتريت الصيوان، وهو الذي يظل بـه داخل السراجة، ويرفع على عمودين كبيرين ويجعل ذلك الرجال على أعناقهم، ويقال لهم اليكوانية والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية، وقد ذكرناهم، ويكتري من يسوق له العشب لعلف الدواب لأنـهم لا يطعمونـها التبن ويكتري الكهارين، وهم الذين يحملون أواني المطبخ، ويكتري من يحمله في الدولة، وقد ذكرناها، ويحملها فارغة، ويكتري الفراشين، وهم الذين يضربون السراجة، ويفرشونـها، ويرفعون الأحمال على الجمال، ويكتري الدوادوية، وهم الذين يمشون بين يديه، ويحملون المشاعل بالليل، فاكتريت أنا جميع من احتجت له منـهم، وأظهرت القوة والهمة، وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة، فلما كان بعد العصر من يوم خروجه ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج، ومن أبطأ وجلس خارج السراجة على كرسي، فجئت وسلمت ووقفت في موقفي بالميمنة، فبعث إلي الملك الكبير قبولة سرجامدار، وهو الذي يشرد الذباب عنـه، فأمرني بالجلوس عناية بي، ولم يجلس في ذلك اليوم سواي ثم أتى بالفيل، وألصق بـه سلم فركب عليه، ورفع الشطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة، ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب، ان يركب الأمراء أفواجا كل أمير بفوجه وعلاماته وطبوله وأنفاره وصرناياته يسمون ذلك المراتب، ولا يركب أمام السلطان، إلا الحجاب وأهل الطرق والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار، والذين يضربون الصرنايات. ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلا، وعن يساره مثل ذلك، منـهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة، وكنت أنا من أهل ميمنته، ويكون بين يديه المشاءون والأدلاء، ويكون خلفه علاماته، وهي من الحرير المذهب، والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه، وأهل دخلته، وخلفهم الأمراء وجميع الناس، ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول بـه أمر بالنزول، ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته، ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون، كل واحد في منزله خلال ذلك ينزل السلطان على نـهر أو بين أشجار، وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد، ويحضر أبناء الملوك في يد كل واحد منـهم سفود، ويوقدون النار ويشوون ذلك، ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها، ويؤتى بالطعام، ويستدعي من شاء فيأكل معه، وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها، فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي، وهو متغير فقال لماذا  فقال: بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك فإن طلب مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم. وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال: يا خوند عالم كل يوم وهو يكلمني بالعربية ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا، وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك، فامض أنت يا أومار، ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوند زاده حاضرا، فقال يا خوند عالم إنـه كثير الإنفاق، وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين. وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام، ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين: أشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه: أشكر لخداوند زاده. وفي بعض تلك الأيام، ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة، وكان طريقه على منزلي وكان معه في الميمنة وأصحابي في الساقة، وكان لي خباء عند السراجة، فوقف أصحابي عندها، وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسأل لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما: لفلان أخبراه ذلك فتبسم. فلما كان بالغد، نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد، فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة.

صفحة : 261

   ذكر الجمل الذي أهديته للسلطان

 وكان السلطان في تلك الأيام سألني عن الملك الناصر هل يركب الجمل، فقلت: نعم يركب المـهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملا منـها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المـهاري بـه من القير، وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنـه وكسوته بالملف، وصنعت له ركبا وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء، فصنع منـها ما يشبه التمر وغيره، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال: يا خوند عالم رأيت العجب قال: وما ذلك  قال: فلان بعث جملا عليه سرج فقال: ائتوا به. فأدخل الجمل داخل السراجة، وأعجب بـه السلطان، وقال لراجلي: اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة، وعاد الرجل إلي فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.

  ذكر الجملين اللذين أهديتهما إليه والحلواء

  وأمره بخلاص ديني وما تعلق بذلك

 ولما عاد إلي راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنـه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخره مكسوا بصفائح الفضة المذهبة وكسوتها بالملف وصنعت رسنا مصفحا بصفائح الفضة المذهبة، وجعلت لهما جلين من زردخانة مبطنين، بالكمخا، وجعلت للجملين الخلاخيل من الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفورا، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير، فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومـه بموضع جلوسه العام، غدوت عليه بالجمال، فأمر بها، فحركت بين يديه، وهرولت فطار خلخال أحدهما فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري  جه داري  درآن طبقها حلوا است، معنى ذلك: ما معك في تلك الأطباق، حلواء هي  فقلت له: نعم فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ: ما أكلت قط، ولا رأيت مثل الحلواء التي بعثها الينا ونحن بالمعسكر، ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه، واستدعاني، وأمر بالطعام، فأكلت ثم سألني عن نوع الحلواء الذي بعثت له: فقلت له: يا خوند عالم، تلك الحلواء أنواعها كثيرة، ولا أدري عن أي نوع تسألون منـها فقال: إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقا، فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنـها، فقال: عن هذا سألتك، وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له: هذه يقال لها المقرصة، ثم أخذ نوعا آخر فقال: وما اسم هذه  فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري، وينتسب إلى آل العباس رضي الله تعالى عنـه، وهو كثير المال ويقول له السلطان والدي، فحسدني وأراد أن يخجلني فقال: ليست هذه لقيمات القاضي، بل هي هذه وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكان كثيرا ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال: يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق. فقال له السلطان: وكيف ذلك فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته، فإنـه أتى بها فضحك السلطان وقال: صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وأخذنا التنبول وانصرفنا فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال: ابعث أصحابك يقبضون المال، فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة، وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفا التي هي دين علي، وصرف الاثني عشر ألفا التي أمر لي بها فيما تقدم، بعد حط العشر على عادتهم وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب.

  ذكر خروج السلطان وأمره لي بالإقامة بالحضرة

صفحة : 262

  وفي تاسع جمادى الأولى خرج السلطان برسم قصد بلاد المعبر، وقتال القائم بها وكنت قد خلصت أصحاب الدين، وعزمت على السفر، وأعطيت مرتب تسعة أشـهر للكهارين والفراشين والكيوانية والدوادوية، وقد تقدم ذكرهم فخرج الأمر بإقامتي في جملة ناس وأخذ الحاجب خطوطنا بذلك لتكون حجة له، وتلك عادتهم خوفا من أن ينكر المبلغ، وأمر لي بستة آلاف دينار دراهم، وأمر لابن قاضي مصر بعشرة آلاف وكذلك كل من أقام من الأعزة، وأما البلديون فلم يعطوا شيئا، وأمر لي السلطان أن أتولى النظر في مقبرة السلطان قطب الدين، الذي تقدم ذكره. وكان السلطان يعظم تربته تعظيما شديدا، لأنـه كان خديما له ولقد رأيته اذا أتى قبره يأخذ نعله فيقبله ويجعله فوق رأسه. وعادتهم أن يجعلوا نعل الميت عند قبره فوق متكأة. وكان إذا وصل القبر خدم له كما كان يخدم أيام حياته، وكان يعظم زوجته، ويدعوها بالأخت وجعلها مع حرمـه وزوجها بعد ذلك لابن قاضي مصر، واعتنى بـه من أجلها وكان يمضي لزيارتها في كل جمعة. ولما خرج السلطان بعث عنا للوداع فقام ابن قاضي مصر فقال: أنا لا أودع ولا أفارق خوند عالم، فكان له في ذلك الخير، فقال له السلطان: إمض فتجهز للسفر، وقدمت بعده للوداع، وكنت أحب الإقامة، ولم تكن عاقبتها محمودة، فقال: مالك من حاجة فأخرجت بطاقة فيها ست مسائل فقال لي: تكلم بلسانك فقلت له إن خوند عالم أمر لي بالقضاء، وما قعدت لذلك بعد وليس مرادي من القضاء الا حرمته فأمرني بالقعود للقضاء وقعود النائبين معي، ثم قال لي: إيه  فقلت وروضة السلطان قطب الدين، ماذا أفعل بها  فإني رتبت فيها أربعمائة وستين شخصا ومحصول أوقافها لا يفي بمرتباتهم وطعامـهم. فقال للوزير بنجاه هزار ومعناه خمسين الفا ثم قال: لا بد لك من غلة بدية يعني أعطه مائة الف من من الغلة، وهي القمح والأرز، ينفقها في هذه السنة حتى تأتي غلة الروضة والمن عشرون رطلا مغربية. ثم قال لي ماذا أيضا فقلت: إن أصحابي سجنوا بسبب القرى التي أعطيتموني، فإني عوضتها بغيرها فطلب أهل الديوان ما وصلني منـها او الاستظهار بأمر خوند عالم أن يرفع عني ذلك فقال كم وصلك منـها فقلت خمسة آلاف دينار فقال هي إنعام عليك فقلت له: وداري التي أمرتم لي بها مفتقرة إلى البناء فقال للوزير: عمارة كنيد، أي معناه عمروها ثم قال لي: ديكر نماند، معناه هل بقي لك كلام  فقلت له: لا فقال لي: وصية ديكر هست، معناه: أوصيك أن لا تأخذ الدين لئلا تطلب فلا تجد من يبلغ خبرك إلي. أنفق على قدر ما أعطيتك قال الله تعالى:  ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط   وكلوا واشربوا ولا تسرفوا   والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما  . فأردت أن أقبل قدمـه، وأمسك رأسي بيده فقبلتها وانصرفت وعدت إلى الحضرة فاشتغلت بعمارة داري، وأنفقت فيها أربعة آلاف دينار، أعطيت منـها من الديوان ستمائة دينار، وزدت عليها الباقي، وبنيت بإزائها مسجدا واشتغلت بترتيب مقبرة السلطان قطب الدين وكان قد أمرني أن تبنى عليه قبة يكون ارتفاعها في الهواء مائة ذراع، بزيادة عشربن ذراعا على ارتفاع القبة المبنية على قازان ملك العراق، وأمر أن تشتري قرية تكون وقفا عليها، وجعلها بيدي علي أن يكون لي العشر من فائدها على العادة.

  ذكر ما فعلته في ترتيب المقبرة

صفحة : 263

  وعادة أهل الهند أن يرتبوا لأمواتهم ترتيبا كترتيبهم بقيد الحياة، ويؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة، وهي مزينة. فرتبت أنا في هذه التربة بحسب ذلك ورتبت من قراء القرآن مائة وخمسين، وهم يسمونـهم اميين، ورتبت من الطلبة ثمانين، ومن المعيدين، ويسمونـهم المكررين، ثمانية، ورتبت لها مدرسا، ورتبت من الصوفية ثمانين، ورتبت الإمام والمؤذنين والقراء بالأصوات الحسان والمداحين وكتاب الغيبة والمعرفين، وجميع هؤلاء يعرفون عندهم بالأرباب، ورتبت صنفا آخر يعرفون بالحاشية، وهم الفراشون والطباخون والدوادوية والأبدارية، وهم السقاءون والشربدارية الذين يسقون الشربة، والتنبول دارية الذين يعطون التنبول والسلحدارية والنيزدارية والشطر دارية والطشت دارية والحجاب والنقباء فكان جميعهم أربعمائة وستين. وكان السلطان أمر أن يكون الطعام بها كل يوم اثني عشر منا من الدقيق ومثلها من اللحم، فرأيت أن ذلك قليل، والزرع الذي أمر بـه كثير فكنت أنفق كل يوم خمسة وثلاثين منا من الدقيق ومثلها من اللحم وما يتبع ذلك من السكر، والنبات، والسمن، والتنبول، وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد وكان الغلاء شديدا فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبره، وسافر الملك صبيح إلى السلطان بدولة آباد سأله عن حال الناس. فقال له لو كان بدهلي اثنان مثل فلان لما شكا الجهد، فأعجب ذلك السلطان، وبعث إليه بخلعة من ثيابه وكنت أصنع في المواسم وهي العيدان والمولد الكريم ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ويوم وفاة السلطان قطب الدين مائة من الدقيق ومثلها لحما فيأكل الفقراء والمساكين، وأما أهل الوظيفة فيجعل أمام كل إنسان منـهم ما يخصه ولنذكر عادتهم في ذلك.

  ذكر عادتهم في إطعام الناس في الولائم

 وعادتهم ببلاد الهند وببلاد السرى أنـه إذا فرغ من أكل الطعام في الوليمة جعل أمام كل إنسان من الشرفاء والفقهاء والمشايخ والقضاة وعاء شبه المـهد له أربع قوائم منسوج سطحه من الخوص، وجعل عليه الرقاق، ورأس غنم مشوي، وأربعة أقراص معجونة بالسمن مملوءة بالحلواء الصابونية مغطاة بأربع قطع من الحلواء كأنـها الآجر وطبقا صغيرا مصنوعا من الجلد فيه الحلواء والسموسك، ويغطى ذلك الوعاء بثوب قطن جديد. ومن كان دون من ذكرناه جعل أمامـه نصف رأسه غنم، ويسمونـه الزلة ومقدار النصف مما ذكرناه. ومن كان دون هؤلاء أيضا جعل أمامـه مثل الربع من ذلك ويرفع رجال كل أحد ما جعل أمامـه وأول ما رأيتهم يصنعون هذا بمدينة السرا حضرة السلطان أوزبك، فامتنعت أن يرفع رجالي ذلك إذ لم يكن لي بـه عهد وكذلك يبعثون أيضا لدار كبراء الناس من طعام الولائم.

  ذكر خروجي إلى هزار أمروها

 وكان الوزير قد أعطاني من الغلة المأمور بها للزاوية عشرة آلاف، ونفذ لي الباقي في هزار أمروها. وكان والي الخراج بها عزيز الخمار، وأميرها شمس الدين البذخشاني. فبعثت رجالي فأخذوا بعض الإحالة، وتشكوا من تعسف عزيز الخمار. فخرجت بنفسي لاستخلاص ذلك. وبين دهلي وهذه العمالة ثلاثة أيام، وكان ذلك في أوان نزول المطر. فخرجت في نحو ثلاثين من أصحابي، واستصحبت معي أخوين من المغنين المحسنين يغنيان لي في الطريق، فوصلنا إلى بلدة بجنور، وضبط اسمـها  بكسر الباء الموحدة وسكون الجيم وفتح النون وآخره راء  فوجدت بها أيضا ثلاثة أخوة من المغنين، فاستصحبتهم. فكانوا يغنون لي نوبة والآخران نوبة.

صفحة : 264

  ثم وصلنا إلى أمروها وهي بلدة صغيرة حسنة، فخرج عمالها للقائي، وجاء قاضيها الشريف أمير علي، وشيخ زاويتها، وأضافاني معا ضيافة حسنة. وكان عزيز الخمار بموضع يقال له: أفغان بور، على نـهر السرو. وبيننا وبينـه النـهر، ولا معدية فيه. فأخذنا الأثقال في معدية صنعناها من الخشب والنبات، وجزنا في اليوم الثاني. وجاء نجيب أخو عزيز في جماعة من أصحابه، وضرب لنا سراجة. ثم جاء أخوه الوالي، وكان معروفا بالظلم، وكانت القرى التي في عمالته ألفا وخمسمائة قرية، ومجباها ستون لكا في السنة، له فيها نصف العشر. ومن عجائب النـهر الذي نزلنا عليه، أنـه لا يشرب منـه أحد في أيام نزول المطر، ولا تسقى منـه دابة. ولقد أقمنا عليه ثلاثا. فما غرف منـه أحد غرفة، ولا كدنا نقرب منـه، لأنـه ينزل من جبل قراجيل التي بها معادن الذهب، ويمر على الخشاش المسمومة، فمن شرب منـه مات. وهذا الجبل متصل مسيرة ثلاثة أشـهر، وينزل منـه إلى بلاد تبت حيث غزلان المسك. وقد ذكرنا ما اتفق على جيش المسلمين بهذا الجبل. وبهذا الموضع جاء إلي جماعة من الفقراء الحيدرية، وعملوا السماع، وأوقدوا النيران فدخلوها ولم تضرهم. وقد ذكرنا ذلك. وكانت قد نشأت بين أمير هذه البلاد شمس الدين البذخشاني وبين واليها عزيز الخمار منازعة. وجاء شمس الدين لقتاله، فامتنع منـه بداره. وبلغت شكاية أحدهما الوزير بدهلي، فبعث إلي الوزير وإلى الملك شاه أمير المماليك بأمروها، وهم أربعة آلاف مملوك للسلطان، وإلى شـهاب الدين الرومي أن ننظر في قضيتهما. فمن كان على الباطل بعثناه مثقفا إلى الحضرة. فاجتمعوا جميعا بمنزلي وادعى عزيز على شمس الدين دعاوى. منـها أن خديما له يعرف بالرضى الملتاني نزل بدار خازن عزيز المذكور فشرب بها الخمر، وسرق خمسة آلاف دينار من المال الذي عند الخازن. فاستفهمت الرضى عن ذلك فقال لي: ما شربت الخمر منذ خروجي من ملتان، وذلك منذ ثمانية أعوام. فقلت له: أو شربتها بملتان  قال: نعم. فأمرت بجلده ثمانين وسجنته بسبب الدعوى للوث ظهر عليه. وانصرفت عن أمروها. فكانت غيبتي نحو شـهرين، وكنت في كل يوم أذبح لأصحابي بقرة. وتركت أصحابي ليأتوا بالزرع المنفذ على عزيز وحمله عليه. فوزع على أهل القرى التي لنظره ثلاثون ألف من يحملونـها على ثلاثة آلاف بقرة. وأهل الهند لا يحملون إلا على البقر، وعليه يرفعون أثقالهم في الأسفار. وركوب الحمير عندهم عيب كبير. وحميرهم صغار الأجرام، يسمونـها اللاشة، وإذا أرادوا إشـهار أحدهم بعد ضربه أركبوه الحمار.

  ذكر مكرمة لبعض الأصحاب

 وكان السيد ناصر الدين الأوهري قد ترك عندي لما سافر ألفا وستين تنكة، فتصرفت فيها، فلما عدت إلى دهلي وجدته قد أحال في ذلك المال خداوندزاده قوام الدين، وكان قد قدم نائبا على الوزير. فاستقبحت أن أقول له: تصرفت بالمال، فأعطيته نحو ثلثه. وأقمت بداري أياما. وشاع أني مرضت. فأتى ناصر الدين الخوارزمي صدر الجهان لزيارتي. فلما رآني قال: ما أرى بك مرضا  فقلت له: إني مريض القلب. فقال لي: عرفني بذلك. فقلت له: ابعث إلي نائبك شيخ الإسلام أعرفه به. فبعثه إلي فأعلمته، فعاد إليه فأعلمـه. فبعث إلي بألف دينار دراهم. وكان له عندي قبل هذا ألف ثان. ثم طلب مني بقية المال. فقلت في نفسي: ما يخلصني منـه إلا صدر الجهان المذكور، لأنـه كثير المال. فبعثت إليه بفرس مسرج، قيمته وقيمة سرجه ألف وستمائة دينار، وبفرس ثان قيمته وقيمة سرجه ثمانمائة دينار، وبغلتين قيمتهما ألف ومائتا دينار، وبتركش فضة، وبسيفين غمداهما مغشيان بالفضة. وقلت له: أنظر قيمة الجميع، زابعث إلي ذلك، فأخذ ذلك، وعمل لجميعه قيمة ثلاث آلاف دينار، فبعث إلي ألفا، واقتطع الألفين، فتغير خاطري، ومرضت بالحمى، وقلت لنفسي: إن شكوت بـه إلى الوزير افتضحت. فأخذت خمسة أفراس وجاريتين ومملوكين وبعثت الجميع للملك مغيث الدين محمد بن ملك الملوك عماد الدين السمناني وهو فتي السن، فرد علي ذلك، وبعث إلي مائتي تنكة واغزر، وخلصت من ذلك المال. فشتان بين فعل محمد ومحمد.

  ذكر خروجي من محلة السلطان

صفحة : 265

  وكان السلطان لما توجه إلى بلاد المعبر وصل إلى التلنك، ووقع الوباء بعسكره، فعاد إلى دولة آباد، ثم وصل إلى نـهر الكنك فنزل عليه، وأمر الناس بالبناء. وخرجت في تلك الأيام إلى محلته، واتفق ما سردناه من مخالفة عين الملك، ولازمت السلطان في تلك الأيام، وأعطاني من عتاق الخيل، لما قسمـها على خواصه، وجعلني فيهم، وحضرت معه الوقيعة على عين الملك والقبض عليه، وجزت معه نـهر الكنك ونـهر السرو، لزيارة قبر الصالح البطل سالارعود  مسعود  ، وقد استوفيت ذلك كله، وعدت معه إلى حضرة دهلي لما عاد إليها.

  ذكر ما هم بـه السلطان من عقابي

  وما تداركني من لطف الله تعالى

 وكان سبب ذلك أني ذهبت يوما لزيارة الشيخ شـهاب الدين ابن الشيخ الجام، بالغار الذي احتفره خارج دهلي، وكان قصدي رؤية ذلك الغار. فلما أخذه السلطان، سأل أولاده عمن كان يزوره، فذكروا أناسا أنا من جملتهم. فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور. وعادته أنـه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص. فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة، فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله:  حسبنا الله ونعم الوكيل  فقرأتها ثلاثا وثلاثين ألف مرة، وبت بالمشور، وواصلت إلى خمسة أيام، في كل يوم منـها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة، ثم أفطرت بعد خمس، وواصلت أربعا، وتخلصت بعد قتل الشيخ، والحمد لله تعالى.

  ذكر انقباضي عن الخدمة وخروجي عن الدنيا

 ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة، ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري، وكان من الأولياء، وله كرامات كثيرة، فقد ذكرت منـها ما شاهدته عند ذكر اسمـه. وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ، ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين. وكان الشيخ يواصل عشرة أيام، وربما واصل عشرين. فكنت أحب أن أواصل، فكان ينـهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة، ويقول لي: إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى. وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي، فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير، وأعطيت ثياب ظهري لفقير، ولبست ثيابه. ولزمت هذا الشيخ خمسة أشـهر، والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند.

  ذكر بعث السلطان عني وإبايتي الرجوع

  إلى الخدمة واجتهادي في العبادة

 ولما بلغه خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسوستان، فدخلت عليه في زي الفقراء، فكلمني أحسن كلام وألطفه، وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت، وطلبت منـه الإذن في السفر إلى الحجاز، فأذن لي فيه، وانصرفت عنـه، ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير، وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة اثنتين وأربعين. فاعتكفت بها شـهر رجب وعشرة من شعبان، وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام، وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام. وكنت أقرأ القرآن كل يوم، وأتهجد بما شاء الله. وكنت إذا أكلت الطعام آذاني، فإذا طرحته وجدت الراحة. وأقمت كذلك أربعين يوما، ثم بعث عني ثانية.

  ذكر ما أمرني بـه من التوجه إلى الصين في الرسالة

 ولما كملت لي أربعون يوما بعث إلي السلطان خيلا مسرجة وجواري وغلمانا وثيابا ونفقة، فلبست ثيابه وقصدته. وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة، لبستها أيام اعتكافي. فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي. وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نورا في باطني، ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر. ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده، وقال لي: إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولا إلى ملك الصين. فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان. فجهزني بما أحتاج له، وعين للسفر معي من يذكر بعد.

  ذكر سبب بعث الهدية للصين

  وذكر من بعث معي وذكر الهدية

صفحة : 266

  وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا، منـها مائة من التي تصنع بمدينة الزيتون، ومائة من التي تصنع بمدينة الخنسا، وخمسة أمنان من المسك، وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر، ومثلها من التراكش مزركشة، ومثلها سيوف. وطلب من السلطان يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره، ويعرف الموضع الذي هو بـه بسمـهل  بفتح السين المـهمل وسكون الميم وفتح الهاء  . وإليه يحج أهل الصين. وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه بأن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه، ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية. فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأة على هديته بخير منـها، وذلك مائة فرس من الجياد مسرجة ملجمة ومائة مملوك ومائة جارية من كفار الهند مغنيات ورواقص، ومائة ثوب بيرمية، وهي من القطن ولا نظير لها في الحسن قيمة الثوب منـها مائة دينار، ومائة شقة من ثياب الحرير المعروفة بالجز  بضم الجيم وزاي  ، وهي التي يكون حرير إحداها مصبوغا بخمسة ألوان وأربعة، ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية، ومثلها من الشيرين باف، ومثلها من الشان باف، وخمسمائة ثوب من المرعز، مائة منـها سود، ومائة بيض، ومائة حمر، ومائة خضر، ومائة زرق، ومائة شقة من الكتان الرومي، ومائة فضلة من الملف، وسراجة، وست من القباب، وأربع حسك من ذهب، وست حسك من فضة منيلة، وأربعة طسوت من الذهب ذات أباريق كمثلها، وستة طسوت من الفضة، وعشر خلع من ثياب السلطان مزركشة، وعشر شواش من لباسه، إحداها مرصعة بالجوهر، وعشرة تراكش مزركشة، وأحدها مرصع بالجواهر، وعشرة من السيوف، أحدها مرصع الغمد بالجوهر، ودشت بان  دستبان  وهو قفاز مرصع بالجواهر، وخمسة عشر من الفتيان. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني، وهو من فضلاء أهل العلم، والفتى كافور الشريدار، وإليه سلمت الهدية، وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منـه البحر. وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين، وهم خمسة عشر رجلا، يسمى كبيرهم ترسي، وخدامـهم نحو مائة رجل. وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة، وأمر لنا السلطان بالضيافة مدة سفرنا ببلاده.

 وكان سفرنا في السابع عشر لشـهر صفر سنة ثلاث وأربعين، وهو اليوم الذي اختاروه للسفر، لأنـهم يختارون للسفر من أيام الشـهر ثانيه، أو سابعه أو الثاني عشر أو السابع عشر أو الثاني والعشرين أو السابع والعشرين. فكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت على مسافة فرسخين وثلث من حضرة دهلي.

 ورحلنا منـها إلى منزل هيلوور ، ورحلنا منـه إلى مدينة بيانة  وضبط اسمـها بفتح الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف مع تخفيفها وفتح النون  ، وهي كبيرة حسنة البناء مليحة الأسواق، ومسجدها الجامع من أبدع المساجد، وحيطانـه وسقفه حجارة. والأمير بها مظفر ابن الداية، وأمـه هي داية للسلطان. وكان بها قبله الملك مجير ابن أبي الرجاء، أحد كبار الملوك، وقد تقدم ذكره، وهو ينتسب إلى قريش وفيه تجبر، وله ظلم كثير. قتل من أهل هذه المدينة جملة، ومثل بكثير منـهم.

 ولقد رأيت من أهلها رجلا حسن الهيئة قاعدا في أسطوان منزله، وهو مقطوع اليدين والرجلين. وقدم السلطان مرة على هذه المدينة، فتشكى الناس من الملك مجير المذكور. فأمر السلطان بالقبض عليه، وجعلت في عنقه الجامعة وكان يقعد بالديوان بين يدي الوزير، وأهل البلد يكتبون عليه المظالم، فأمره السلطان بإرضائهم، فأرضاهم بالأموال. ثم قتله بعد ذلك. ومن كبار أهل هذه المدينة الإمام العالم عز الدين الزبيري من ذرية الزبير ابن العوام رضي الله عنـه، أحد كبار الفقهاء الصلحاء. لقيته بكاليور عند الملك عز الدين البنتاني، المعروف بأعظم ملك. ثم رحلنا من بيانة فوصلنا إلى مدينة كول  وضبط اسمـها بضم الكاف  مدينة حسنة ذات بساتين، وأكثر أشجارها العنبا. ونزلنا بخارجها في بسيط أفيح. ولقينا بها الشيخ الصالح العابد شمس الدين المعروف بابن العارفين، وهو مكفوف البصر معمر، وبعد ذلك سجنـه السلطان، ومات في سجنـه، وقد ذكرنا حديثه.

  ذكر غزوة شـهدناها بكول

صفحة : 267

  ولما بلغنا إلى مدينة كول، بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها، وهي على مسافة سبعة أميال من كول. قصدناها والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف، ولم يعلم الكفار بنا، حتى صدقنا الحملة عليهم، وهم في نحو ألف فارس، وثلاثة آلاف راجل، فقتلناهم عن آخرهم، واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم، واستشـهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارسا وخمسة وخمسون راجلا، واستشـهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده. فكتبنا إلى السلطان بخبره، وأقمنا في انتظار الجواب. وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع، فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي. وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على معتهم.

  ذكر محنتي بالأسر وخلاصي منـه

  وخلاصي من شدة بعده على يد ولي من أولياء الله تعالى

 وفي بعض تلك الأيام ركبت في جماعة من أصحابي، ودخلنا بستانا نقيل فيه، وذلك في فصل القيظ. فسمعنا الصياح، فركبنا ولحقنا كفارا أغاروا على قرية من قرى الجلالي. فاتبعناهم فتفرقوا، وتفرق أصحابنا في طلبهم. وانفردت في خمسة من أصحابنا. فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك، ففررنا منـهم لكثرتهم. واتبعني نحو عشرة منـهم، ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منـهم. ولا طريق بين يدي، وتلك الأرض كثيرة الحجارة. فنشبت يد فرسي بين الحجارة فنزلت عنـه، واقتلعت يده، وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسراج ويسمى الركابي والآخر في التركش. فسقط سيفي الركابي من غمده، وكانت حليته ذهبا، فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت، وهم في أثري. ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم.

 ثم خرجت إلى واد في وسط شجراء ملتفة في وسطها طريق. فمشيت عليها ولا أعرف منتهاها، فبينا أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلا من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي، وخفت أن يرموني رمية رجل واحد إن فررت منـهم، وكنت غير متدرع، فألقيت بنفسي إلى الأرض، واستأسرت. وهم لا يقتلون من فعل ذلك، فأخذوني وسلبوني جميع ما علي، غير جبة وقميص وسروال، ودخلوا بي إلى تلك الغابة، فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منـها على حوض ماء بين تلك الأشجار، وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منـه وشربت من الماء. وكان معهم مسلمان، كلماني بالفارسية، وسألاني عن شأني، فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم، ولكن هذا مقدمـهم. وأشاروا إلى رجل منـهم، فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له. فوكل بي ثلاثة منـهم، أحدهم شيخ ومعه ابنـه والآخر أسود خبيث. وكلمني أولئك الثلاثة، ففهمت منـهم أنـهم أمروا بقتلي واحتملوني عشي النـهار إلى كهف. وسلط الله على الأسود منـهم حمى مرعدة، فوضع رجليه علي، ونام الشيخ وابنـه. فلما أصبح الصباح، تكلموا فيما بينـهم، وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض، وفهمت أنـهم يريدون قتلي، فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرق لي، وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما، لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت.

 ولما كان عند الظهر سمعنا كلاما عند الحوض، فظنوا أنـهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم، فنزلنا ووجدنا قوما آخرين، فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا. وجلس ثلاثتهم أمامي، وأنا مواجه لهم. ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض، وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي، بهذا الحبل يربطوني عند القتل. وأقمت كذلك ساعة، ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني، فتكلموا معهم، وفهمت أنـهم قالوا لهم: لأي شيء ما قتلتموه  فأشار الشيخ إلى الأسود. كأنـه اعتذر بمرضه، وكان أحد هؤلاء الثلاثة شابا حسن الوجه، فقال لي: أتريد أن أسرحك  فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت علي فأعطيته إياها. وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق، فذهبت وخفت أن يبدو لهم، فيدركونني. فدخلت غيضة قصب وأخفيت نفسي فيها إلى أن غابت الشمس.

 ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب، فأفضت بي إلى ماء فشربت منـه، وسرت إلى ثلث الليل، فوصلت إلى جبل، فنمت تحته. فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عال فيه شجر أم غيلان والسدر، فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثارا هي باقية حتى الآن.

صفحة : 268

  ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزروعة قطنا، وبها أشجار الخروع، وهنالك باين، والباين عندهم بئر متسعة جدا مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس، ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها، وسنذكر بعض ما رأيناه منـها فيما بعد. ولما وصلت إلى الباين شربت منـه ووجدت عليه شيئا من عساليج الخردل، قد سقطت لمن غسلها، فأكلت منـها، وادخرت باقيها، ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارسا مدرعين، فدخل بعضهم إلى المزرعة، ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح. ونزلوا إلى الباين. وأتى أحدهم شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها، فلم يشعر بي، ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن، وأقمت بها بقية نـهاري. وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون. فلما كان الليل هدأت أصواتهم. فعلمت أنـهم قد مروا أو ناموا، فخرجت حينئذ، واتبعت أثر الخيل والليل مقمر، وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة، فنزلت إليه وشربت من مائه، وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي، ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير، فنمت عليها، وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنـه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقا واسعة تفضي إلى قرية خربة، وسلكت سواها، فكانت كمثلها. وأقمت كذلك أياما، وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة، بينـها حوض ماء، وداخلها شبه بيت، وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره، فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة. ثم إني وجدت يسير قوة، فنـهضت على طريق وجدت بها أثر البقر، ووجدت ثورا عليه بردعة ومنجل، فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقا أخرى، فأفضت بي إلى قرية خربة. ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما، وأقمت تحت أشجار هنالك. فلما كان الليل دخلت القرية، ووجدت دارا في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة، يصنعونـها لاختزان الزرع، وفي أسفلها نقب يسع الرجل، فدخلتها ووجدت داخلها مفروشا بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي عليه ونمت. وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنـه كان يخاف فاجتمعنا خائفين.

 وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت، وهو يوم السبت، وفي السابع منـها وصلت إلى قرية للكفار عامرة، وفيها حوض ماء، ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني، فوجدت حول بئر بها أوراق فجل فأكلتها. وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة، فدعاني طليعتهم فلم أجبه، وقعدت إلى الأرض. فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به، فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد، ففتشني فلم يجد عندي شيئا، فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي.

صفحة : 269

  ولما كان في اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء، ووصلت إلى قرية خراب، فلم أجد بها حوضا. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضا يجتمع بها ماء المطر فيشربون منـه جميع السنة. فاتبعت طريقا، فافضت بي إلى بئر غير مطوية، عليها حبل مضنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها، فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل، وامتصصت ما تعلق بها من الماء، فلم يروني، فربطت خفي واستقيت بـه فلم يروني، فاستقيت بـه ثانيا، فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر، فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت، ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر، وبخرق وجدتها هنالك. فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص، فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز، وعلى كاهله جراب. فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال لي بالفارسية: جيكس  جه كسى  معناه: من أنت  فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء، فأردت أن أشرب، فقال لي: إصبر. ثم فتح جرابه، فأخرج منـه غرفة حمص أسود مقلي مع قليل أرز. فأكلت منـه وشربت، وتوضأ وصلى ركعتين، وتوضأت أنا وصليت. وسألني عن اسمي فقلت له: محمد، وسألته عن اسمـه فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك وسررت به. ثم قال لي: بسم الله. ترافقني  فقلت: نعم. فمشيت معه قليلا. ثم وجدت فتورا في أعضائي، ولم أستطع النـهوض فقعدت. فقال لي: ما شأنك. فقلت له: كنت قادرا على المشي قبل أن ألقاك، فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله، اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف، ولا تستطيع ذلك. فقال: يقويني الله. لا بد لك فركبت على عنقه. وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك.

 وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض، فاستيقظت ولم أر للرجل أثرا، وإذا أنا في قرية عامرة، فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمـها من المسلمين، فأعلموه بي فجاء إلي فقلت له: ما اسم هذه القرية  فقال لي: تاج بوره. وبينـها وبين مدينة كول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته، فأطعمني طعاما سخنا واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بكول. فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتى بهما، فوجدتهما من ثيابي التي كنت قد وهبتها لذلك العربي لما قدمنا كول. فطال تعجبي من ذلك.

 وفكرت بالرجل الذي حملني على عنقه، فتذكرت ما أخبرني بـه ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي، حسبما ذكرناه في السفر الأول، إذ قال لي: ستدخل أرض الهند وتلقى بها أخي ويخلصك من شدة تقع فيها. وتذكرت قوله لما سألته عن اسمـه فقال: القلب الفارح وتفسيره بالفارسية دلشاد، فعلمت أنـه هو الذي أخبرني بلقائه، وأنـه من الأولياء. ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكر، وأتيت تلك الليلة إلى أصحابي بكول معلما لهم بسلامتي، فجاءوا إلي بفرس وثياب، واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم، وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار، عوضا من كافور المستشـهد، وأمرنا أن نتمادى على سفرنا. ووجدتهم أيضا قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري، وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور، وهم يريدون أن يرجعوا. فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم، وقوي عزمي. فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة  والسلطان يعذرك، فلنرجع إليه أو تقيم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام، وحيثما كنا أدركنا الجواب. فرحلنا من كول ونزلنا برج بوره، وبه زاوية حسنة، فيها شيخ حسن الصورة والسيرة يسمى بمحمد العريان، لأنـه لا يلبس عليه إلا ثوبا من سرته إلى أسفل، وباقي جسده مكشوف. وهو تلميذ الصالح الولي محمد العريان القاطن بقرافة مصر نفع الله به.

 حكاية هذا الشيخ

صفحة : 270

  وكان من أولياء الله تعالى، قائما على قدم التجرد، يلبس تنورة، وهو ثوب يستر من سرته إلى أسفل. ويذكر أنـه كان إذا صلى العشاء الآخرة أخرج كل ما بقي بالزاوية من طعام وإدام وماء، وفرقه على المساكين، ورمى بفتيلة السراج وأصبح على غير معلوم. وكانت عادته أن يطعم أصحابه عند الصباح خبزا وفولا. فكان الخبازون والفوالون يستبقون إلى زاويته، فيأخذ منـهم مقدار ما يكفي الفقراء، ويقول لمن أخذ منـه ذلك: اقعد، حتى يأخذ أول ما يفتح بـه عليه في ذلك اليوم قليلا أو كثيرا. ومن حكاياته أنـه لما وصل قازان ملك التتر إلى الشام بعساكره، وملك دمشق ما عدا قلعتها، وخرج الملك الناصر إلى معته، ووقع اللقاء على مسيرة يومين من دمشق، بموضع يقال له قشحب. والملك الناصر إذ ذاك حديث السن لم يعهد الوقائع. وكان الشيخ العريان في صحبته فنزل. وأخذ قيدا فقيد بـه فرس الملك الناصر لئلا يتزحزح عند اللقاء لحداثة سنـه فيكون ذلك سبب هزيمة المسلمين. فثبت الملك الناصر وهزم التتر هزيمة شنعاء، قتل منـهم فيها كثير وغرق كثير بما أرسل عليه من المياه. ولم يعد التتر إلى قصد بلاد الإسلام بعدها. وأخبرني الشيخ محمد العريان المذكور تلميذ هذا الشيخ أنـه حضر هذه الوقيعة وهو حديث السن. ورحلنا من برج بوره ونزلنا على الماء المعروف باب سياه، ثم رحلنا إلى مدينة قنوج  وضبط اسمـها بكسر القاف وفتح النون وواو ساكن وجيم  مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة الأسعار كثيرة السكر، ومنـها يحمل إلى دهلي. وعليها سور عظيم، وقد تقدم ذكرها. وكان بها الشيخ معين الدين الباخرزي، أضافنا بها، وأميرها فيروز البدخشاني من ذرية بهرام جور  جوبين  صاحب كسرى. وسكن بها جماعة من الصلحاء الفضلاء المعروفين بمكارم الأخلاق يعرفون بأولاد شرف جهان، وكان جدهم قاضي القضاة بدولة آباد، وهو من المحسنين المتصدقين، وانتهت الرياسة ببلاد الهند إليه.

 حكاية يذكر أنـه عزل مرة عن القضاء وكان له أعداء، فادعى أحدهم عند القاضي الذي ولي بعده أن له عشرة آلاف دينار قبله، ولم تكن له بينة، وكان قصده أن يحلفه. فبعث القاضي له، فقال لرسوله: بم ادعى علي  فقال: بعشرة آلاف دينار. فبعث إلى مجلس القاضي عشرة آلاف، وسلمت للمدعي. وبلغ خبره السلطان علاء الدين، وصح عنده بطلان تلك الدعوى، فأعاده إلى القضاء، وأعطاه عشرة آلاف. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثا، ووصلنا فيها جواب السلطان في شأني بأنـه لم يظهر لفلان أثر، فيتوجه وجيه الملك قاضي دولة آباد عوضا منـه. ثم رحلنا من هذه المدينة فنزلنا بمنزل هنول ثم بمنزل وزير بور ثم بمنزل البجالصة، ثم وصلنا إلى مدينة موري  وضبط اسمـها بفتح الميم وواو وراء  وهي صغيرة، ولها أسواق حسنة. ولقيت بها الشيخ الصالح المعمر قطب الدين المسمى بحيدر الفرغاني، وكان بحال المرض، فدعاني وزودني رغيف شعير، وأخبرني أن عمره ينيف على مائة وخمسين، وذكر لي أصحابه أنـه يصوم الدهر، ويواصل كثيرا، ويكثر الأعتكاف، وربما أقام في خلوته أربعين يوما يقتات فيها بأربعين تمرة، في كل يوم واحدة. وقد رأيت بدهلي الشيخ المسمى برجب البرقعي دخل الخلوة بأربعين تمرة فأقام بها أربعين يوما ثم خرج، وفضل معه منـها ثلاث عشرة تمرة. ثم رحلنا ووصلنا إلى مدينة مره وضبط اسمـها  بفتح وسكون الراء وهاء  ، وهي مدينة كبيرة، أكثر سكانـها كفار تحت الذمة، وهي حصينة. وبها القمح الطيب الذي ليس مثله بسواها، ومنـها يحمل إلى دهلي، وحبوبه طوال شديدة الصفرة ضخمة، ولم أر قمحا مثله إلا بأرض الصين. وتنسب هذه المدينة إلى المالوة  بفتح اللام  ، وهي قبيلة من قبائل الهنود كبار الأجسام عظام الخلق حسان الصور، لنسائهم الجمال الفائق، وهن مشـهورات بطيب الخلوة ووفرة الحظ من اللذة. وكذا نساء المرهتة ونساء جزيرة ذيبة المـهل. ثم سافرنا إلى مدينة علابور  وضبط اسمـها بفتح العين ولام وألف وباء موحدة مضمومة وواو وراء  مدينة صغيرة أكثر سكانـها الكفار تحت الذمة، وعلى مسيرة يوم منـها سلطان كافر اسمـه قتم  بفتح القاف والتاء المعلوة  وهو سلطان جنبيل  بفتح الجيم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء مد ولام  الذي حاصر مدينة كيالير وقتل بعد ذلك.

 حكاية

صفحة : 271

  كان هذا السلطان الكافر قد حاصر مدينة رابري، وهي على نـهر اللجون، كثيرة القرى والمزارع. وكان أميرها خطاب الأفغاني، وهو أحد الشجعان واستعان السلطان الكافر بسلطان كافر مثله يسمى رجو  بفتح الراء وضم الجيم  وبلده يسمى سلطان بور، وحاصر مدينة رابري، فبعث خطاب إلى السلطان يطلب منـه الإعانة، فأبطأ عليه المدد وهو على مسيرة أربعين من الحضرة، فخاف أن يتغلب الكفار عليه، فجمع من قبيلة الأفغان نحو ثلاثمائة ومثلهم من المماليك، ونحو أربعمائة من سائر الناس، وجعلوا العمائم في أعناق خيلهم، وهي عادة أهل الهند إذا أرادوا الموت وباعوا نفوسهم من الله تعالى. وتقدم خطاب وقبيلته وتبعهم الناس، وفتحوا الباب عند الصبح، وحملوا على الكفار حملة واحدة، وكانوا نحو خمس عشر ألفا، فهزموهم بإذن الله وقتلوا سلطانيهم: قتم ورجو، وبعثوا برأسيهما إلى السلطان. ولم ينج من الكفار إلا الشريد.

  ذكر أمير علابور واستشـهاده

 وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفردا بنفسه، فيقتل ويسبي، حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار.

 وكان طويلا ضخما يأكل الشاة عن آخرها في أكلة. وأخبرت أنـه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة. فاتفق أنـه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع بـه الفرس في مطمورة، واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقتارة، والقتارة  بقاف معقود وتاء معلوة  حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منـها مقدار ذراعين، وضربتها لا تبقي، فقتله بتلك الضربة ومات فيها. وقاتل عبيده أشد القتال، فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأخرجوا الفرس من المطمورة سالما، فأتوا بـه ولده. فكان من الاتفاق الغريب أنـه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي، فخرج عليه الكفار، فقاتلهم حتى قتل، وعاد الفرس إلى أصحابه، فدفعوه إلى أهله، فركبه صهر له، فقتله الكفار عليه أيضا. ثم سافرنا إلى مدينة كاليور  وضبط اسمـها بفتح الكاف المعقود وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وواو وراء  ويقال فيه أيضا: كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع منقطع في رأس شاهق، على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة، وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين. وأمير هذه المدينة أحمد بن سيرخان، فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة، ودخلت عليه يوما وهو يريد توسيط رجل من الكفار، فقلت له: بالله لا تفعل ذلك، فإني ما رأيت أحدا قط يقتل بمحضري، فأمر بسجنـه. وكان ذلك سبب خلاصه. ورحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة برون  وضبط اسمـها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخره نون  مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار، أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلا، وأبوابها مغلقة فيفترس الناس. حتى قتل من أهلها كثيرا، وكانوا يعجبون في شأن ه.

 وأخبرني محمد التوفيري من أهلها، وكان جارا لي بها أنـه دخل داره ليلا وافترس صبيا من فوق السرير. وأخبرني غيره أنـه كان مع جماعة في دار عرس فخرج أحدهم لحاجة فافترسه أسد فخرج أصحابه في طلبه، فوجدوه مطرحا بالسوق وقد شرب دمـه، ولم يأكل لحمـه. وذكروا أنـه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع، وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية، يتصور في صورة سبع. ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني بـه جماعة. ولنذكر بعضا من أخبار هؤلاء السحرة.

  ذكر السحرة الجوكية

صفحة : 272

  وهؤلاء الطائفة تظهر منـهم العجائب، منـها أن أحدهم يقيم الأشـهر لا يأكل ولا يشرب، وكثير منـهم تحفر لهم تحت الأرض وتبنى عليه. فلا يترك له إلا موضع يدخل منـه الهواء، ويقيم بها الشـهور. وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلا من المسلمين ممن يتعلم منـهم، قد رفعت له طبلة، وأقام بأعلاها، لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوما، وتركته كذلك. فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنـهم يركبون حبوبا، يأكلون الحبة منـها لأيام معلومة وأشـهر، فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا . ويخبرون بأمور معيبة. والسلطان يعظمـهم ويجالسهم. ومنـهم من يقتصر في أكله على البقل، ومنـهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون. والظاهر من حالهم أنـهم عودوا أنفسهم الرياضة. ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنـهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتا من نظرته، وتقول العامة: إنـه إذا قتل بالنظر، وشق عن صدر الميت، وجد دون قلب. ويقولون: أكل قلبه. وأكثر ما يكون هذا في النساء. والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار.

 حكاية لما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط، والسلطان ببلاد التلنك، نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم. فجمعهم الوزير، ووزع المساكين منـهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامـهم. فكان عندي منـهم خمسمائة نفس، فعمرت لهم سقائف في واد ، وأسكنتهم بها. وكنت أعطيتهم نفقتهم خمسة أيام. فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منـهم وقالوا: إنـها كفتارة. وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها، وأتوا بالصبي ميتا. فأمرتهم أن يذهبوا بها إلى نائب السلطان، فأمر باختبارها. وذلك بأن ملأوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نـهر الجون، فلم تغرق. فعلم أنـها كفتار، ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار. فأمر بإحراقها بالنار. وأتى أهل البلد رجالا ونساء فأخذوا رمادها. وزعموا أنـه من تبخر بـه أمن في تلك السنة من سحر كفتار.

 حكاية بعث إلي السلطان يوما وأنا عنده بالحضرة، فدخلت عليه وهو في خلوة، وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية، وهم يلتحفون بالملاحف، ويغطون رؤوسهم لأنـهم ينتفونـها بالرماد، كما ينتف الناس آباطهم. فأمرني بالجلوس فجلست فقال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة، فأرياه ما لم يره، فقالا: نعم. فتربع أحدهما، ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعا، فعجبت منـه، وأدركني الوهم فوقعت على الأرض. فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده، فأفقت وقعدت، وهو على حاله متربع. فأخذ صاحبه نعلا له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه، وهو ينزل قليلا قليلا حتى جلس معنا. فقال السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل. ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت. فانصرفت عنـه، وأصابني الخفقان، ومرضت، حتى أمر لي بشربة أذهبت ذلك عني.

 ولنعد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أمواري ثم منزل كجرا، وبه حوض عظيم طوله نحو ميل، وعليه الكنائس فيها الأصنام، قد مثل بها المسلمون. وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاث طباق، وعلى أركانـه الأربع قباب. ويسكن هنالك جماعة من الجوكية، وقد لبدوا شعورهم، وطالت، حتى صارت في طولهم، وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة. وكثير من المسلمين يتبعونـهم ليتعلموا منـهم، ويذكرون أن من كانت بـه عاهة من برص أو جذام يأوي إليهم مدة طويلة فيبرأ بإذن الله تعالى. وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان، وكانوا نحو الخمسين. فحفر لهم غارا تحت الأرض، وكانوا مقيمين بـه لا يخرجون إلا لقضاء حاجة. ولهم شبه القرن يضربونـه أول النـهار وآخره، وبعد العتمة. وشأنـهم كله عجب. ومنـهم الرجل الذي صنع السلطان غياث الدين الدامغاني سلطان بلاد المعبر حبوبا يأكلها تقويه على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد فأعجبه فعلها، فأكل منـها أزيد من مقدار الحاجة فمات. وولي ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا الجوكي ورفع قدره.

صفحة : 273

  ثم سافرنا إلى مدينة جنديري  وضبط اسمـها بفتح الجيم المعقود وسكون النون وكسر الدال المـهمل وياء مد وراء  مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنـها أمير أمراء تلك البلاد عز الدين البنتاني وهو المدعو بأعظم ملك، وكان خيرا فاضلا يجالس أهل العلم. وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري، والفقيه العالم وجيه الدين البياني نسبة إلى مدينة بيانة، التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة، وإمامـهم شمس الدين، وكان النائب عنـه على أمور المخزن يسمى قمر الدين، ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان، وبين يديه تعرض العساكر. وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادرا. ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار  وضبط اسمـها بكسر الظاء المعجم  ، وهي مدينة المالوة، أكبر عمار تلك البلاد، وزرعها كثير، خصوصا القمح. ومن هذه المدينة تحمل أوراق التنبول إلى دهلي وبينـهما أربعة وعشرون يوما، وعلى الطريق بينـهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين عمودين. فإذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومـه، وما بقي له إلى المنزل وإلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه. ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المـهل.

 حكاية كان الشيخ إبراهيم قدم على هذه المدينة ونزل بخارجها، فأحيا أرضا مواتا هنالك. وصار يزدرعها بطيخا، فتأتي في الغاية من الحلاوة. ليس بتلك الأرض مثلها. ويزرع الناس بطيخا فيما يجاوره فلا يكون مثله، وكان يطعم الفقراء والمساكين. فلما قصد السلطان إلى بلاد المعبر أهدى إليه هذا الشيخ بطيخا فقبله واستطابه، وأقطعه مدينة ظهار، وأمره أن يعمر زاوية بربوة يشرف عليها. فعمرها أحسن عمارة، وكان يطعم بها الوارد والصادر، وأقام على ذلك أعواما. ثم قدم على السلطان وحمل إليه ثلاثة عشر لكا، فقال: هذا فضل مما كنت أط الناس، وبيت المال أحق به. فقبضه منـه ولم يعجب السلطان فعله، لكونـه جمع المال ولم ينفق جميعه في إطعام الطعام. وبهذه المدينة أراد ابن أخت الوزير خواجه جهان أن يفتك ب، ويستولي أمواله، ويسير إلى القائم ببلاد المعبر. فنمى خبره إلى فقبض عليه، وعلى جماعة الأمراء، وبعثهم إلى السلطان، فقتل الأمراء، ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير.

 حكاية

صفحة : 274

  ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر بـه أن يقتل كما قتل أصحابه، وكانت له جارية يحبها. فاستحضرها وأطا التنبول وأطعمته، وعانقها مودعا، ثم طرح للفيلة، وسلخ جلده وملء تبنا. فلما كان من الليل، خرجت الجارية من الدار، فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه، فوجدت ميتة من الغد. فأخرجت ودفن لحمـه معها في قبر واحد، وسمي قبور  كور  عاشقان. وتفسير ذلك بلسانـهم قبر العاشقين. ثم سافرنا من مدينة ظهار إلى مدينة أجين  وظبط اسمـها بضم الهمزة وفتح الجيم وياء ونون  مدينة حسنة كثيرة العمارة. وكا يسكنـها الملك ناصر الدين بن عين الملك، من الفضلاء الكرماء العلماء، استشـهد بجزيرة سندابور حين افتتحها. وقد زرت قبره هنالك، وسنذكره. وبهذه المدينة كان سكنى الفقيه الطبيب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل. ثم سافرنا من مدينة أجين إلى مدينة دولة آباد، وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي، في رفعة قدرها واتساع خطتها. وهي منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها دولة آباد وهو مختص بسكنى السلطان وعساكره، والقسم الثاني اسمـه الكتكة  بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينـهما  ، والقسم الثالث قلعتها التي لا مثل لها ولا نظير في الحصانة وتسمى الدويقير  بضم الدال المـهمل وفتح الواو وسكون الياء وقاف معقود مكسور وياء مد وراء  . وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها، والنائب عن السلطان بها، وببلاد صاغر وبلاد التلنك وما أضيف إلى ذلك، وعمالتها مسيرة ثلاثة أشـهر، عامرة كلها لحكمـه ونوابه فيها. وقلعة الدويقير التي ذكرناها في قطعة حجر في بسيط من الأرض، قد نحتت وبني بأعلاها قلعة يصعد إليها بسلم مصنوع من جلود ويرفع ليلا. ويسكن بها المفردون وهم الزماميون بأولادهم. وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جيوب بها. وبها فيران ضخام أعظم من القطوط، والقطوط تهرب منـها، ولا تطيق معتها لأنـها تغلبها. ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها. وقد رأيتها هناك، فعجبت منـها.

 حكاية أخبرني الملك خطاب الأفغاني أنـه سجن مرة في جب بهذه القلعة، يسمى جب الفيران. قال: فكانت تجتمع علي ليلا لتأكلني. فأقاتلها، وألقى من ذلك جهدا. ثم إني رأيت في النوم قائلا يقول لي: إقرأ سورة ألإخلاص مائة ألف مرة، ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها. فلما أتممتها أخرجت. وكان سبب خروجي أن ملك مل كان مسجونا في جب يجاورني فمرض. وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات. فبلغ ذلك السلطان فقال: أخرجوا خطابا لئلا يتفق له مثل ذلك. وإلى هذه القلعة لجأ ناصر الدين بن ملك مل المذكور، والقاضي جلال، حين هزمـهما السلطان. وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن، وخصوصا في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة أكثر بحركات الجماع ماليس لغيرهن. وكفار هذه المدينة أصحاب تجارة. وأكثر تجارتهم في الجواهر، وأموالهم طائلة. وهم يسمون الساهة وأحدهم ساه بإهمال السين، وهم الأكارم بديار مصر. وبدولة آباد العنب والرمان. ويثمران مرتين في السنة وهي من أعظم البلاد مجبى، وأكبرها خراجا، لكثرة عمارتها واتساع عمالتها. وأخبرت أن بعض الهنود التزم مغارمـها وعمالتها جميعا. وهي كما ذكرناها مسيرة ثلاثة أشـهر، بسبعة عشر كرورا، والكرور مائة لك، واللك مائة ألف دينار. ولكنـه لم يف بذلك، فبقي عليه بقية، وأخذ ماله وسلخ جلده.

  ذكر سوق المغنين

صفحة : 275

  وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق طرب آباد، من أجمل الأسواق وأكبرها، فيه الدكاكين الكثيرة. كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه. وللدار باب سوى ذلك. والحانوت مزين بالفرش، وفي وسطه شكل مـهد كبير، تجلس فيه المغنية أو ترقد، وهي متزينة بأنواع الحلي، وجواريها يحركن مـهدها. وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة، يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من كل يوم خميس، وبين يديه خدامـه ومماليكه. وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى، فيغنين بين يديه وين إلى وقت المغرب، ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة. ويصلي ألئمة فيها التراويح في شـهر رمضان. وكان بعض سلاطين الكفار بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها، وتغني المغنيات بين يديه. وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضا. ثم سافرنا إلى مدينة نذربار  وضبط اسمـها بنون وبذال معجم مفتوحين وراء مسكن وباء موحدة مفتوحة وألف وراء  مدينة صغيرة يسكنـها المرهتة، وهم أهل الإتقان في الصنائع والأطباء والمنجمون. وشرفاء المرهتة هم البراهمة، وهم الكتريون أيضا. وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم. ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه. ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة، ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينـهم سبعة أجداد. لا يشربون الخمر، وهي عندهم أعظم المعائب. وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين. ومن شربها من مسلم جلد ثمانين جلدة، وسجن في مطمورة ثلاثة أشـهر، لا تفتح عليه إلا حين طعامـه.

 ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة صاغر  وضبط اسمـها بفتح الصاد المـهمل وفتح الغين المعجم وآخره راء  وهي مدينة كبيرة على نـهر كبير يسمى أيضا صاغر كاسمـها. وعليه النواعير والبساتين. فيها العنب والموز وقصب السكر. وأهل هذه المدينة أهل صلاح ودين وأمانة. وأحوالهم كلها مرضية. ولهم بساتين فيها الزوايا للوارد والصادر. وكل من يبني زاوية يحبس البستان عليها، ويجعل النظر فيه لأولاده. فإن انقرضوا عاد النظر للقضاة. والعمارة بها كثيرة. والناس يقصدونـها للتبرك بأهلها، ولكونـها محررة من المغارم والوظائف.

 ثم سافرنا من صاغر المذكورة إلى مدينة كنباية  وضبط اسمـها بكسر الكاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وياء آخر الحروف مفتوحة  وهي على خور من البحر، وهو شبه الوادي، تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب بـه مرساة في الوحل حين الجزر، فإذا كان المد عامت في الماء. وهذه المدينة من أحسن المدن في إتقان البناء وعمارة المساجد. وسبب ذلك أن أكثر سكانـها التجار الغرباء. فهم أبدا يبنون بها الديار الحسنة والمساجد العجيبة، ويتنافسون في ذلك. ومن الديار العظيمة بها دار الشريف السامري الذي اتفقت لي معه قضية الحلواء، وكذبه ملك الندماء. ولم أر قط أضخم من الخشب الذي رأيته بهذه الدار وبابها كأنـه باب مدينة. وإلى جانبها مسجد عظيم يعرف باسمـه. ومنـها دار ملك التجار الكازروني، وإلى جانبها مسجده، ومنـها دار التاجر شمس الدين كلاه وز ومعناه خياط الشواشي.

 حكاية

صفحة : 276

  ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين المذكور والناخوذة الياس، وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منـه بهذه المدينة. وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها، فتغلب عليهم ودخلها. واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة، وخافوا أن يتطلع عليهم. فاتفقوا على ان يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منـهم صاحبه بقتارة، وقد ذكرنا صفتها، فمات اثنان منـهم، ولم يمت ملك الحكماء. وكان من كبار التجار أيضا بها نجم الدين الجيلاني، وكان حسن الصورة كثير المال، وبنى بها دارا عظيمة ومسجدا. ثم بعث السلطان عنـه وأمره عليها وأعطاه المراتب. فكان ذلك سبب تلف نفسه وماله. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها مقبل التلنكي، وهو كبير المنزلة عند السلطان. وكان في صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائبا عنـه في جميع أموره. وهذا الشيخ له أموال عظيمة، وعنده معرفة بأمور السلطنة. ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده، ويتحيل في الفرار. وبلغ خبره إلى السلطان، وذكر عنـه أنـه يروم الهروب. فكتب إلى مقبل أن يبعثه فبعثه على البريد، وأحضر بين يدي السلطان ووكل به. والعادة عنده أنـه متى وكل بأحد فقلما ينجو. فاتفق هذا الشيخ مع الموكل بـه على مال يعطيه إياه، وهربا جميعا. وذكر لي أحد الثقات أنـه رآه في ركن مسجد بمدينة قلهات، وأنـه وصل بعد ذلك إلى بلاده، فحصل على أمواله، وأمن مما كان يخافه.

 حكاية وأضافنا الملك مقبل يوما بداره، فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة، وهو أعور العين اليمني، وفي مقابلته شريف بغدادي شديد الشبه بـه في صورته وعوره، إلا أنـه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك. فزجره القاضي، فقال له: لا تزجرني، فإني أحسن منك. قال: كيف ذلك  قال: لأنك أعور اليمنى، وأنا أعور اليسرى. فضحك الأمير والحاضرون. وخجل القاضي، ولم يستطع أن يرد عليه. والشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم. وكان بهذه المدينة من الصالحين الحاج ناصر من أهل ديار بكر، وسكناه بقبة من قباب الجامع. دخلنا إليه، وأكلنا من طعامـه. واتفق له لما دخل القاضي جلال مدينة كنباية حين خلافه، أنـه أتاه، وذكر للسلطان أنـه دعا له. فهرب لئلا يقتل كما قتل الحيدري. وكان بها أيضا من الصالحين التاجر خواجه إسحاق، وله زاوية يطعم فيها الوارد والصادر، وينفق على الفقراء والمساكين. وماله على هذا ينمو ويزيد كثرة. وسافرنا من هذه المدينة إلى بلد كاوي، وهي على خور فيه المد والجزر وهي من بلاد الري جالنسي الكافر، وسنذكره. وسافرنا منـها إلى مدينة قندهار  وضبط اسمـها بفتح القاف وسكون النون وفتح الدال المـهمل وهاء والف وراء  ، وهي مدينة كبيرة للكفار على خور من البحر.

 ذكر سلطان قندهار

 سلطان قندهار كافر اسمـه جالنسي  بفتح الجيم واللام وسكون النون وكسر السين المـهمل  ، وهو تحت حكم الإسلام، ويعطي لملك الهند هدية كل عام. لما وصلنا إلى قندهار خرج إلى استقبالنا، وعظمنا أشد التعظيم، وخرج عن قصره فأنزلنا به. وجاء إلينا من عنده من كبار المسلمين كأولاد خواجه بهره. ومنـهم الناخوذة إبراهيم، له ستة من المراكب مختصة له. ومن هذه المدينة ركبنا البحر

 ذكر ركوبنا البحر

صفحة : 277

  وركبنا في مركب لإبراهيم المذكور تسمى الجاكر  بفتح الجيم والكاف المعقودة  . وجعلنا فيه من خيل الهدية سبعين فرسا، وجعلنا باقيها مع خيل أصحابنا في مركب لأخي إبراهيم المذكور يسمى منورت  بفتح الميم ونون وواو مد وراء مسكن وتاء معلوة  وأعطانا جالنسي مركبا جعلنا فيه ظهير الدين وسنبل وأصحابهما، وجهزه لنا بالماء والزاد والعلف. وبعث معنا ولدا في مركب يسمى العكيري  بضم العين المـهمل وفتح الكاف وسكون الياء وراء  ، وهو شبه الغراب، إلا أنـه أوسع منـه. وفيه ستون مجذافا. ويسقف حين القتال حتى لا ينال الجذافين شيء من السهم ولا الحجارة. وكان ركوبي أنا في الجاكر، وكان فيه خمسون راميا وخمسون من المقاتلة الحبشة، وهم زعماء هذا البحر. وإذا كان بالمركب أحد منـهم تحاماه لصوص الهنود وكفارهم. ووصلنا بعد يومين إلى جزيرة بيرم  وضبط اسمـها بفتح الباء الموحدة وسكون الياء وفتح الراء  ، وهي خالية. وبينـها وبين البر أربعة أميال. فنزلنا بها، واستقينا الماء من حوض بها. وسبب خرابها أن المسلمين دخلوها على الكفار فلم تعمر بعد. وكان ملك التجار الذي تقدم ذكره أراد عمارتها، وبنى سورها، وجعل بها المجانيق، وأسكن بها بعض المسلمين.

 ثم سافرنا منـها ووصلنا في اليوم الثاني إلى مدينة قوقة وهي  بضم القاف الأولى وفتح الثانية  ، وهي مدينة كبيرة عظيمة الأسواق، فرسينا على أربعة أميال منـها بسبب الجزر، ونزلت في عشاري مع بعض أصحابي حين الجزر لأدخل إليها، فوحل العشاري في الطين، وبقي بيننا وبين البلد نحو ميل. فكنت لما نزلنا في الوحل أتوكأ على رجلين من أصحابي وخوفني الناس من وصول المد قبل وصولي إليها،وأنا لا أحسن السباحة، ثم وصلت إليها، وطفت بأسواق، ورأيت بها مسجدها ينسب للخضر وإلياس عليهما السلام. صليت بـه المغرب ووجدت بـه جماعة من الفقراء الحيدرية مع شيخ لهم ثم عدت إلى المركب.

 ذكر سلطان قوقة

 وسلطانـها كافر يسمى دنكول  بضم الدال المـهمل وسكون النون وضم الكاف وواو ولام  . وكان يظهر الطاعة لملك الهند، وهو في الحقيقة عاص. ولما أقلعنا عن هذه المدينة ووصلنا بعد ثلاثة أيام إلى جزيرة سندابور  وضبط اسمـها بفتح السين المـهمل وسكون النون وفتح الدال المـهمل والف وباء موحدة وواو مد وراء  ، وهي جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية، ويدور بها خور، وإذا كان الجزر فماؤها عذب طيب، وإذا كان المد فهو ملح أجاج. وفي وسطها مدينتان: إحداهما قديمة من بناء الكفار، والثانية بناها المسلمون عند استفتاحهم لهذه الجزيرة الفتح الأول، وفيها مسجد جامع عظيم يشبه مساجد بغداد عمره الناخوذة حسن والد السلطان جمال الدين محمد الهنوري، وسيأتي ذكره. وذكر عند حضوري معه لفتح هذه الجزيرة الفتح الثاني إن شاء الله. وتجاوزنا هذه الجزيرة لما مررنا بها، وأرسينا على جزيرة صغيرة قريبة من البر، فيها كنيسة وبستان وحوض ماء، ووجد بها أحد الجوكية.

  حكاية هذا الجوكي

 ولما نزلنا بهذه الجزيرة الصغرى وجدنا بها جوكيا مستندا إلى حائط بدخانة، وهي بيت الأصنام، وهو فيما بين صنمين منـها، وعليه أثر المجاهدة. فكلمناه فلم يتكلم، ونظرنا هل معه طعام، فلم نر معه طعاما. وفي حين نظرنا، صاح صيحة عظيمة فسقطت عند صياحه جوزة من جوز النارجيل بين يديه، ودفعها لنا. فعجبنا من ذلك، ودفعنا له دنانير ودراهم فلم يقبلها. وأتيناه بزاد فرده. وكانت بين يديه عباءة من صوف الجمال مطروحة فقلبتها بيدي، فدفعها لي. وكانت بيدي سبحة زيلع فقلبها في يدي فأعطيته إياها، ففركها بيده وشمـها وقبلها، وأشار إلى السماء، ثم إلى سمت القبلة. فلم يفهم أصحابي إشارته، ففهمت أنا عنـه أنـه أشار أنـه مسلم يخفي إسلامـه من أهل تلك الجزيرة، ويتعيش من تلك الجوز. ولما ودعناه قبلت يده. فأنكر أصحابي ذلك. ففهم إنكارهم. فأخذ يدي وقبلها وتبسم، وأشار لنا بالانصراف فانصرفنا.

صفحة : 278

  وكنت آخر أصحابي خروجا، فجذب ثوبي فرددت رأسي إليه. فأعطاني عشرة دنانير. فلما خرجنا عنـه قال لي أصحابي: لم جذبك  فقلت لهم: أعطاني هذه الدنانير وأعطيت لظهير الدين ثلاثة منـها، ولسنبل ثلاثة، وقلت لهما: الرجل مسلم، ألا ترون كيف أشار إلى السماء  يشير إلى أنـه يعرف الله تعالى، وأشار إلى القبلة، يشير إلى معرفة الرسول عليه السلام، وأخذه السبحة يصدق ذلك. فرجعا لما قلت لهما ذلك إليه فلم يجداه. وسافرنا تلك الساعة. وبالغد وصلنا إلى مدينة هنور  وضبط اسمـها بكسر الهاء وفتح النون وسكون الواو وراء  ، وهي على خور كبير تدخله المراكب الكبار. والمدبنة على نصف ميل من البحر. وفي أيام البشكال، وهو المطر، يشتد هيجان هذا البحر وطغيانـه، فيبقى مدة أربعة أشـهر لا يستطيع أحد ركوبه إلا للتصيد فيه. وفي يوم وصولنا إليها جاءني أحد الجوكية من الهنود في خلوة، وأعطاني ستة دنانير، وقال لي: البرهمي بعثها إليك، يعني الجوكي الذي أعطيته السبحة. وأعطاني الدنانير فأخذتها منـه، وأعطيته دينارا منـها فلم يقبله، وانصرف. وأخبرت صاحبي بالقضية، وقلت لهما: إن شئتما فخذا نصيبكما منـها، فأبيا وجعلا يعجبان من شأنـه. وقالا لي: إن الدنانير الستة التي أعطيتنا إياها جعلنا معها مثلها، وتركناها بين الصنمين حيث وجدناها. فطال عجبي من أمره، واحتفظت بتلك الدنانير التي أعطانيها. وأهل مدينة هنور شافعية المذهب. لهم صلاح ودين وجهاد في الحرب وقوة، وبذلك عرفوا، حتى أذلهم الزمان بعد فتحهم لسندابور، وسنذكر ذلك. ولقيت من المتعبدين بهذه المدينة الشيخ محمد الناقوري، أضافني بزاويته. وكان يطبخ الطعام بيده استقذارا للجارية والغلام. ولقيت بها الفقيه إسماعيل معلم كتاب الله تعالى وهو ورع حسن الخلق كريم النفس، والقاضي بها نور الدين علي، والخطيب لا أذكر اسمـه. ونساء هذه المدينة وجميع هذه البلاد الساحلية لا يلبسن المخيط، وإنما يلبسن ثيابا غير مخيطة. تحتزم إحداهن بأحد طرفي الثوب وتجعل باقيه على رأسها وصدرها. ولهن جمال وعفاف. وتجعل إحداهن خرص ذهب في أنفها. ومن خصائصهن أنـهن جميعا يحفظن القرآن الكريم. ورأيت بالمدينة ثلاثة عشر مكتبا لتعليم البنات، وثلاثة وعشرين لتعليم الأولاد. ولم أر ذلك في سواها. ومعاش أهلها من التجارة في البحر. ولا زرع لهم. وأهل بلاد المليبار يعطون للسلطان جمال الدين في كل عام شيئا معلوما، خوفا منـه لقوته في البحر. وعسكره نحو ستة آلاف بين فرسان ورجالة.

 ذكر سلطان هنور

 وهو السلطان جمال الدين محمد بن حسن، من خيار السلاطين وكبارهم وهو تحت حكم سلطان كافر يسمى هريب، سنذكره. والسلطان جمال الدين مواظب للصلاة في الجماعة. وعادته أن يأتي إلى المسجد قبل الصبح، فيتلو في المصحف حتى يطلع الفجر، فيصلي أول وقت، ثم يركب إلى خارج المدينة. ويأتي عند الضحى فيبدأ بالمسجد، فيركع فيه ثم يدخل فيه، ثم يدخل إلى قصره. وهو يصوم الأيام البيض وكان أيام إقامتي عنده يدعوني للإفطار معه فأحضر لذلك، ويحضر الفقيه علي والفقيه إسماعيل. فتوضع أربع كراسي صغار على الأرض. فيقعد على إحداها، ويقعد كل واحد منا على كرسي.

  ذكر ترتيب طعامـه

صفحة : 279

  وترتيبه أن يؤتى بمائدة نحاس يسمونـها خونجة، ويجعل عليها طبق نحاس يسمونـه الطالم  بفتح الطاء المـهمل وفتح اللام  ، وتأتي جارية حسنة ملتحفة بثوب حرير، فتقدم قدور الطعام بين يديه، ومعها مغرفة نحاس كبيرة، فتغرف بها من الأرز مغرفة واحدة، وتجعلها في الطالم، وتصب فوقها السمن، وتجعل مع ذلك عناقيد الفلفل المملوح والزنجبيل الأخضر والليمون المملوح والعنبا ، فيأكل الإنسان لقمة، ويتبعها بشيء من تلك الموالح. فإذا تمت الغرفة التي جعلها في الطالم غرفت غرفة أخرى من الأرز، وأفرغت دجاجة مطبوخة في سكرجة، فيؤكل بها الأرز أيضا. فإذا تمت الغرفة الثانية، وغرفت وأفرغت لونا آخر من الدجاج تؤكل به. فإذا تمت ألوان من الدجاج، أتوا بألوان من السمك، فيأكلون بها الأرز أيضا. فإذا فرغت ألوان السمك أتوا بالخضر مطبوخة بالسمن، والألباب فيأكلون بها الأرز، فإذا فرغ ذلك كله أتوا بالكوشان، وهو اللبن الرائب، وبهذا يختمون طعامـهم. فإذا وضع علم أنـه لم يبق شيء يؤكل بعده. ثم يشربون على ذلك الماء السخن، لأن الماء البارد يضر بهم في فصل نزول المطر. ولقد أقمت عند هذا السلطان في كرة أخرى أحد عشر شـهرا لم آكل خبزا، إنما طعامـهم الأرز. وبقيت أيضا بجزائر المـهل وسيلان وبلاد المعبر والمليبار ثلاث سنين لا آكل فيها إلا الأرز، حتى كنت لا أستسيغه إلا بالماء. ولباس هذا السلطان ملاحف الحرير والكتان الرقاق، يشد في وسطه فوطة، ويلتحف ملحفتين: إحداهما فوق الأخرى. ويقص شعره، ويلف عليه عمامة صغيرة. وإذا ركب لبس قباء، والتحف بملحفتين فوقه. وتضرب بين يديه طبول وأبواق يحملها الرجال. وكانت إقامتنا عنده في هذه المرة ثلاثة أيام. وزودنا وسافرنا عنـه.

 وبعد ثلاثة أيام وصلنا إلى بلاد المليبار  بضم الميم وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة وألف وراء  ، وهي بلاد الفلفل. وطولها مسيرة شـهرين على ساحل البحر من سندابور إلى كولم، والطريق في جميعها بين ظلال الأشجار. وفي كل نصف ميل بيت من الخشب فيه دكاكين يقعد عليها كل وارد وصادر من مسلم وكافر. وعند كل بيت منـها بئر يشرب منـها ورجل كافر موكل بها. فمن كان كافرا سقاه في الأواني، ومن كان مسلما سقاه في يديه. ولا يزال يصب له حتى يشير له أن يكف. ومن عادة الكفار ببلاد المليبار أن لا يدخل المسلم دورهم، ولا يطعم في أوانيهم. فإن طعم فيها كسروها وأعطوها للمسلمين. وإذا دخل المسلم موضعا منـها لا يكون في دار للمسلمين، طبخوا له الطعام وصبوه على أوراق الموز وصبوا عليه الإدام، وما فضل عنـه تأكله الكلاب والطير، وفي جميع المنازل بهذا الطريق ديار المسلمين ينزل عندهم المسلمون فيبيعون منـهم جميع ما يحتاجون إليه، ويطبخون لهم الطعام. ولولاهم لما سافر فيه مسلم. وهذا الطريق الذي ذكرنا أنـه مسيرة شـهرين، ليس فيه موضع شبر فما فوقه دون عمارة. وكل إنسان بستانـه على حدة وداره في وسطه. وعلى الجميع حائط خشب. والطريق يمر في البساتين. فإذا انتهى إلى حائط بستان كان هنالك درج خشب يصعد عليها ودرج آخر ينزل عليها إلى البستان الآخر. هكذا مسيرة الشـهرين.

صفحة : 280

  ولا يسافر أحد في تلك البلاد بدابة، ولا تكون الخيل إلا عند السلطان. وأكثر ركوب أهلها في دولة على رقاب العبيد أو المستأجرين. ومن لم يستطع أن يركب في دولة ، مشى على قدميه كائنا من كان. ومن كان له رحل أو متاع من تجارة وسواها اكترى رجالا يحملونـه على ظهورهم. فنرى هنالك التاجر ومعه المائة فما دونـها أو فوقها، يحملون أمتعته، وبيد كل واحد منـهم عود غليظ له زج حديد، وفي أعلاه مخطاف حديد، فإذا أعيا ولم يجد دكانة يستريح عليها، ركز عوده بالأرض، وعلق حمله منـها، فإذا استراح أخذ حمله من غير معين، ومضى به. ولم أر طريقا آمن من هذا الطريق. وهم يقتلون السارق على الجوزة الواحدة. فإذا سقط شيء من الثمار لم يلتقطه أحد، حتى يأخذه صاحبه. وأخبرت أن بعض الهنود مروا على الطريق فالتقط أحدهم جوزة. وبلغ خبره إلى الحاكم، فأمر بعود، فركز في الأرض وبرى طرفه الأعلى وأدخل في لوح خشب حتى برز منـه. ومد الرجل على اللوح، وركز في العود وهو على بطنـه حتى خرج من ظهره، وترك عبرة للناظرين. ومن هذه العيدان على هذه الصورة بتلك الطرق كثير ليراها الناس فيتعظوا. ولقد كنا نلقى الكفار بالليل في هذه الطريق فإذا رأونا تنحوا عن الطريق حتى نجوز. والمسلمون أعز الناس بها، غير أنـهم كما ذكرنا لا يؤاكلونـهم ولا يدخلونـهم دورهم. وفي بلاد المليبار اثنا عشر سلطانا من الكفار. منـهم القوي الذي يبلغ عسكره خمسين ألفا، ومنـهم الضعيف الذي عسكره ثلاثة آلاف. ولا فتنة بينـهم ألبتة، ولا يطمع القوي منـهم في انتزاع ما بيد الضعيف. وبين بلاد أحدهم وصاحبه باب خشب منقوش فيه اسم الذي هو مبدأ عمالته، ويسمونـه باب أمان فلان. وإذا فر مسلم أو كافر بسبب جناية من بلاد أحدهم ووصل إلى باب أمان الآخر أمن على نفسه. ولم يستطع الذي هرب عنـه أخذه، وإن كان القوي صاحب العدد والجيوش. وسلاطين تلك البلاد يورثون ابن الأخت ملكهم دون أولادهم. ولم أر من يفعل ذلك إلا مسوفة أهل الثلم  اللثام  ، وسنذكرهم فيما بعد. وإذا أراد السلطان من أهل بلاد المليبار منع الناس من البيع أو الشراء أمر بعض غلمانـه، فعلق على الحوانيت بعض أغصان الأشجار بأوراقها، فلا يبيع أحد ولا يشتري ما دامت عليها تلك الأغصان.

  ذكر الفلفل

 وشجرات الفلفل شبيهة بدوالي العنب، وهم يغرسونـها إزاء النارجيل، فتصعد فيها كصعود الدوالي إلا أنـها ليس لها عسلوج، وهو الغزل كما للدوالي، وأوراق شجره تشبه آذان الخيل. وبعضها يشبه أوراق العليق، ويثمر عناقيد صغارا. حبها كحب أبي قنينة، إذا كانت خضراء. وإذا كان أوان الخريف قطفوه وفرشوه على الحصر في الشمس. كما يصنع بالعنب عند تزبيبه. ولا يزالون يقلبونـه حتى يستحكم يبسه، ثم يبيعونـه من التجار. والعامة ببلادنا يزعمون أنـهم يقلونـه بالنار. وبسبب ذلك يحدث فيه التكريش، وليس كذلك وإنما يحدث ذلك فيه بالشمس. ولقد رأيته بمدينة قالقوط، يصب للكيل، كالذرة ببلادنا. وأول مدينة دخلناها من بلاد المليبار مدينة أبي سرور  بفتح السين  ، وهي صغيرة على خور كبير، كثيرة أشجار النارجيل. وكبير المسلمين بها الشيخ جمعه المعروف بأبي ستة، أحد الكرماء. أنفق أمواله على الفقراء والمساكين حتى نفدت. وبعد يومين منـها وصلنا إلى مدينة فاكنور  وضبط اسمـها بفتح الفاء والكاف والنون وآخره راء  مدينة كبيرة على خور بها قصب السكر الكثير الطيب لذي لا مثيل له بتلك البلاد. وبها جماعة من المسلمين يسمى كبيرهم بحسين السلاط، وبها قاض وخطيب. وعمر بها حسين المذكور مسجدا لإقامة الجمعة.

 ذكر سلطان فاكنور

صفحة : 281

  وسلطان فاكنور كافر اسمـه باسدو  بفتح الباء الموحد والسين المـهمل والدال المـهمل وسكون الواو  ، وله نحو ثلاثين مركبا حربيا قائدها مسلم يسمى لولا، وكان من المفسدين يقطع بالبحر ويسلب التجار. ولما أرسينا على فاكنور، وبعث سلطانـها إلينا ولده، فأقام بالمركب كالرهينة، ونزلنا إليه. فأضافنا ثلاثا بأحسن ضيافة تعظيما لسلطان الهند، وقياما بحقه رغبة فيما يستفيده في التجارة مع أهل مراكبنا. ومن عادتهم هنالك أن كل مركب يمر ببلد فلا بد من إرسائه بها، وإعطائه هدية إلى صاحب البلد، يسمونـها حق البندر. ومن لم يفعل ذلك خرجوا في اتباعه بمراكبهم، وأدخلوه المرسى قهرا، وضاعفوا عليه المغرم، ومنعوه عن السفر ما شاءوا. وسافرنا منـها، فوصلنا بعد ثلاثة أيام إلى مدينة منجرور  وضبط اسمـها بفتح الميم وسكون النون وفتح الجيم وضم الراء وواو وراء ثاينة  مدينة كبيرة على خور، يسمى خور الدنب  بضم الدال المـهمل وسكون النون وباء موحدة  ، وهو أكبر خور ببلاد المليبار. وبهذه المدينة ينزل معظم تجار فارس واليمن. والفلفل والزنجبيل بها كثير جدا.

  ذكر سلطانـها

 وهو أكبر سلاطين تلك البلاد واسمـه رام دو  بفتح الراء والميم والدال المـهمل وسكون الواو  ، وبها نحو أربعة آلاف من المسلمين، يسكنون ربضا بناحية المدينة. ربما وقعت الحرب بينـهم وبين أهل المدينة، فيصلح بينـهم لحاجته إلى التجار. وبها قاض من الفضلاء الكرماء شافعي المذهب يسمى بدر الدين المعيري، وهو يقرئ العلم. صعد إلينا، إلى المركب، ورغب منا في النزول إلى بلده، فقلنا حتى يبعث ولده يقيم بالمركب. فقال: إنما يفعل ذلك سلطان فاكنور، لأنـه لا قوة للمسلمين في بلده. وأما نحن فالسلطان يخافنا. فأبينا عليه إلى أن بعث السلطان ولده، كما فعل الآخر، ونزلنا إليهم. فأكرمونا إكراما عظيما. وأقمنا عنده ثلاثة أيام. ثم سافرنا إلى مدينة هيلي، فوصلناها بعد يومين  وضبط اسمـها بهاء مكسورة وياء مد ولام مكسور  ، وهي كبيرة حسنة العمارة، على خور عظيم تدخله المراكب الكبار. وإلى هذه المدينة تنتهي مراكب الصين. لا تدخل إلا مرساها ومرسى كولم وقالقوط. ومدينة هيلي معظمة عند المسلمين والكفار بسبب مسجدها الجامع، فإنـه عظيم البركة مشرق النور. وركاب البحر ينذرون له النذور الكثيرة. وله خزانة مال عظيمة تحت نظر الخطيب حسين وحسن الوزان كبير المسلمين. وبهذا المسجد جماعة من الطلبة يتعلمون العلم، ولهم مرتبات من مال المسجد. وله مطبخة يصنع فيها الطعام للوارد والصادر، ولإطعام الفقراء من المسلمين بها. ولقيت بهذا المسجد فقيها صالحا من أهل مقدشو يسمى سعيدا، حسن اللقاء والخلق. يسرد الصوم. وذكر أنـه جاور بمكة أربع عشرة سنة، ومثلها بالمدينة. وأدرك الأمير بمكة أبا نمي، والأمير بالمدينة منصور بن جماز، وسافر في بلاد الهند والصين. ثم سافرنا من هيلي إلى مدينة جرفتن  وضبط اسمـها بضم الجيم وسكون الراء وفتح الفاء وفتح التاء المعلوة وتشديدها وآخره نون  ، وبينـه وبين هيلي ثلاثة فراسخ. ولقيت بها فقيها من أهل بغداد كبير القدر يعرف بالصرصري، نسبة إلى بلدة على مسافة عشرة أميال من بغداد في طريق الكوفة، واسمـها كاسم صرصر التي عندنا بالمغرب. وكان له أخ بهذه المدينة كثير المال، له أولاد صغار أوصى إليه بهم. وتركته آخذا في حملهم إلى بغداد. وعادة أهل الهند كعادة السودان لا يتعرضون لمال الميت، ولو ترك الآلاف إنما يبقى ماله بيد كبير المسلمين، حتى يأخذه مستحقه شرعا.

  ذكر سلطانـها

صفحة : 282

  وهو يسمى بكويل  بضم الكاف على لفظ التصغير  ، وهو من أكبر سلاطين المليبار. وله مراكب كثيرة تسافر إلى عمان وفارس واليمن. ومن بلاده فتن وبدفتن، وسنذكرهما. وسرنا من جرفتن إلى مدينة ده فن  بفتح الدال المـهمل وسكون الهاء  ، وقد ذكرنا ضبط فتن. وهي مدينة كبيرة على خور، كثيرة البساتين. وبها النارجيل والفلفل والفوفل والتنبول، وبها القلقاص الكثير، ويطبخون بـه اللحم. وأما الموز فلم أر في البلاد أكثر منـه بها ولا أرخص ثمنا. وفيها الباين الأعظم، طوله خمسمائة خطوة وعرضه ثلاثمائة خطوة. وهو مطوي بالحجارة الحمر المنحوتة، وعلى جوانبه ثمان وعشرون قبة من الحجر. في كل قبة أربعة مجالس من الحجر. وكل قبة يصعد إليها على درج حجارة. وفي وسطه قبة كبيرة من ثلاث طبقات، في كل طبقة أربعة مجالس. وذكر لي أن والد هذا السلطان كويل هو الذي عمر هذا الباين. وبإزائه مسجد جامع للمسلمين، وله أدراج ينزل منـها إليه فيتوضأ منـه الناس ويغتسلون. وحدثني الفقيه حسين أن الذي عمر المسجد والباين أيضا هو أحد أجداد كويل، وأنـه كان مسلما، ولإسلامـه خبر عجيب نذكره.

  ذكر الشجرة العجيبة الشأن التي بإزاء الجامع

 ورأيت أنا بإزاء الجامع شجرة خضراء تشبه أوراقها أوراق التين، إلا أنـها لينة. وعليها حائط يطيف بها، وعندها محراب صليت فيه ركعتين. واسم هذه الشجرة عندهم درخت الشـهادة ودرخت  بفتح الدال المـهمل والراء وسكون الخاء المعجم وتاء معلوة  وأخبرت هنالك أنـه إذا كان زمان الخريف من كل سنة، تسقط من هذه الشجرة ورقة واحدة بعد أن يستحيل لونـها إلى الصفرة، ثم إلى الحمرة، ويكون فيها مكتوبا بقلم القدرة: لا اله إلا الله محمد رسول الله. وأخبرني الفقيه حسين وجماعة من الثقات أنـهم عاينوا هذه الورقة، وقرأوا المكتوب الذي فيها. وأخبرني أنـه إذا كانت أيام سقوطها قعد تحتها الثقات من المسلمين والكفار، فإذا سقطت أخذ المسلمون نصفها، وجعل نصفها في خزانة السلطان الكافر، وهم يستشفون بها للمرضى. وهذه الشجرة كانت سبب إسلام جد كويل الذي عمر المسجد والباين. فإنـه كان يقرأ الخط العربي. فلما قرأها وفهم ما فيها أسلم وحسن إسلامـه. وحكايته عندهم متواترة. وحدثني الفقيه حسين أن أحد أولاده كفر بعد أبيه وطغى، وأمر باقتلاع الشجرة من أصلها فاقتلعت، ولم يترك لها أثر. ثم نبتت بعد ذلك، وعادت كأحسن مما كانت عليه، وهلك الكافر سريعا. ثم سافرنا إلى مدينة بدفتن. وهي مدينة كبيرة على خور كبير، وبخارجها مسجد بمقربة من البحر يأوي إليه غرباء المسلمين. لأنـه لا مسلم بهذه المدينة. ومرساها من أحسن المراسي، وماؤها عذب، والفوفل بها كثير. ومنـها يحمل للهند والصين. وأكثر أهلها براهمة. وهم معظمون عند الكفار، مبغضون في المسلمين. ولذلك ليس بينـهم مسلم.

 حكاية أخبرت أن سبب تركهم هذا المسجد غير مـهدوم، أن أحد البراهمة خرب سقفه ليصنع منـه سقفا لبيته، فاشتعلت النار في بيته. فأحرق هو وأولاده ومتاعه. فاحترموا هذا المسجد، ولم يتعرضوا له بسوء بعدها، وخدموه، وجعلوا بخارجه الماء، يشرب منـه الصادر والوارد وجعلوا على بابه شبكة لئلا يدخله الطير. ثم سافرنا من مدينة بدفتن إلى مدينة فندرينا  وضبط اسمـها بفاء مفتوح ونون ساكن ودال مـهمل وراء مفتوحة وياء آخر الحروف  ، مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأسواق. وبها للمسلمين ثلاث محلات، في كل محلة مسجد والجامع بها على الساحل، وهو عجيب، له مناظر ومجالس على البحر. وقاضيها وخطيبها رجل من أهل عمان، وله أخ فاضل. وبهذه البلدة تشتو مراكب الصين. ثم سافرنا منـها إلى مدينة قالقوط  وضبط اسمعا بقافين وكسر اللام وضم القاف الثاني وآخره طاء مـهمل  ، وهي إحدى البنادر العظام ببلاد المليبار. يقصدها أهل الصين والجاوة وسيلان والمـهل وأهل اليمن وفارس. ويجتمع بها تجار الآفاق. ومرساها من أعظم مراسي الدنيا.

 ذكر سلطان قالقوط

صفحة : 283

  وسلطانـها كافر يعرف بالسامري، شيخ مسن يحلق لحيته، كما تفعل طائفة الروم، رأيته بها، وسنذكره إن شاء الله. وأمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين فاضل ذو مكارم، يجتمع إليه التجار، ويأكلون في سماطه. وقاضيها فخر الدين عثمان فاضل كريم، وصاحب الزاوية بها الشيخ شـهاب الدين الكازروني، وله تعطى النذور التي ينذر بها أهل الهند والصين للشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به. وبهذه المدينة الناخوذة مثقال، الشـهير الإسم، صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس. ولما وصلنا إلى هذه المدينة، خرج إلينا إبراهيم شاه بندر، والقاضي، والشيخ شـهاب الدين، وكبار التجار، ونائب السلطان الكافر والمسمى بقلاج،  بضم القاف وآخره جيم  ومعه الأطبال والأنفار والأبواق والأعلام في مراكبهم. ودخلنا المرسى في بروز عظيم ما رأيت مثله بتلك البلاد. فكانت فرحة تتبعها ترحة. وأقمنا بمرساها، وبه يومئذ ثلاثة عشر من مراكب الصين ونزلنا بالمدينة. وجعل كل واحد منا في دار. وأقمنا ننتظر زمان السفر إلى الصين ثلاثة أشـهر، ونحن في ضيافة الكافر، وبحر الصين لا يسافر فيه إلا بمراكب الصين. ولنذكر ترتيبها.

 ذكر مراكب الصين

 ومراكب الصين ثلاثة أصناف: الكبار منـها تسمى الجنوك، واحدها جنك  بجيم معقود مضموم ونون ساكن  ، والمتوسطة اسمـها الزو  بفتح الزاي وواو  ، والصغار اسم أحدها الككم  بكافين مفتوحتين  . ويكون في المركب الكبير منـها اثنا عشر قلعا فما دونـها إلى ثلاثة. وقلعها من قضبان الخيزران منسوجة كالحصر لا تحط أبدا، ويديرونـها بحسب دوران الريح. وإذا أرسوا تركوها واقفة في مـهب الريح، ويخدم في المركب منـها ألف رجل، منـهم البحرية ستمائة، ومنـهم أربعمائة من المقاتلة تكون فيهم الرماة وأصحاب الدرق والجرخية، وهم الذين يرمون بالنفط، ويتبع كل مركب كبير منا ثلاثة: النصفي والثلثي والربعي. ولا تصنع هذه المراكب إلا بمدينة الزيتون من الصين، أو بصين كلان، وهي صين الصين. وكيفية إنشائها أنـهم يصنعون حائطين من الخشب، يصلون ما بينـهما بخشب ضخام جدا، موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام، طول المسمار منـها ثلاثة أذرع. فإذا التأم الحائطان بهذه الخشب صنعوا على أعلاهما فرش الأسفل، ودفعوهما في البحر، وأتموا عمله، وتبقى تلك الخشب والحائطان موالية الماء ينزلون فيغتسلون ويقضون حاجتهم. وعلى جوانب تلك الخشب تكون مجاذيفهم، وهي كبار كالصواري، يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلا، ويجذفون وقوفا على أقدامـهم. ويجعلون للمركب أربعة ظهور، ويكون فيه البيوت والمصاري والغرف للتجار، والمصرية منـها يكون فيه البيوت والسنداس، وعليها المفتاح يسدها صاحبها، ويحمل معه الجواري والنساء، وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف بعه غيره ممن يكون بالمركب، حتى يتلاقيا إذا وصلا بعض البلاد. والبحرية يسكنون فيه أولادهم ويزدرعون الخضر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب، ووكيل المركب كأنـه أمير كبير، وإذا نزل إلى البر مشت الرماة والحبشة بالحراب والسيوف والأطبال والأبواق والأنفار أمامـه. وإذا وصل إلى المنزل الذي يقيم بـه ركزوا رماحهم عن جانبي بابه، ولا يزالون كذلك مدة إقامته. ومن أهل الصين من تكون له المراكب الكثيرة، يبعث بها وكلاءه إلى البلاد. وليس في الدنيا أكثر أموالا من أهل الصين.

 ذكر أخذنا في السفر إلى الصين ومنتهى ذلك

صفحة : 284

  ولما حان وقت السفر إلى الصين، جهز لنا السلطان السامري جنكا من الجنوك الثلاثة عشر التي بمرسى قالقوط. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي، وبيني وبينـه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد، لأجل الجواري. ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين. ولصهري مصرية أعطيكها، لكنـها لا سنداس فيها. وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي من المتاع، وصعد العبيد والجواري إلى الجنك، وذلك في يوم الخميس. وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخدناها بالجنك ضيقة لا تصلح، فذكرت ذلك للناخوذة، فقال: ليس في ذلك حيلة، فإن أحببت أن تكون في الككم ففيه المصاري على اختيارك. فقلت: نعم. وأمرت أصحابي، فنقلوا الجواري والمتاع إلى الككم. واستقروا بـه قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانـه كل يوم بعد العصر، فلا يستطيع أحد ركوبه. وكانت الجنوك قد سافرت، ولم يبق منـها إلا الذي فيه الهدية، وجنك عزم أصحابه على ان يشتوا بفندرينا، والككم المذكور، فبتنا ليلة السبت على الساحل، لا نستطيع الصعود إلى الككم، ولا يستطيع من فيه النزول إلينا. ولم يكن بقي معي إلا بساط أفترشـه. وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى. ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا، فتكسر. ومات بعض أهله، وسلم بعضهم، وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه، فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهبا لمن يخرجها. وكانت قد التزمت خشبة في مؤخر الجنك. فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها. وأبى أن يأخذ الدنانير، وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية، فمات جميع من فيه. ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم، ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه، وتناثر دماغه، والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه، ونفذ من الآخر. وصلينا عليهما ودفناهما. ورأيت الكافر سلطان قالقوط في وسطه شقة بيضاء كبيرة قد لفها من سرته إلى ركبته، وفي رأسه عمامة صغيرة، وهو حافي القدمين، والشطر بيد غلام فوق رأسه، والنار توقد بين يديه في الساحل، وزبانيته يضربون الناس لئلا ينتهبوا ما يرمي البحر. وعادة بلاد المليبار أن كل ما انكسر من مركب يرجع ما يخرج منـه للمخزن إلا في هذا البلد خاصة، فإن ذلك يأخذه أربابه. ولذلك عمرت، وكثر تردد الناس إليها. ولما رأى أهل الككم ما حدث عن الجنك، رفعوا قلعهم وذهبوا، ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري، وبقيت منفردا على الساحل، ليس معي إلا فتى كنت أعتقته. فلما رأى ما حل بي ذهب عني، ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي، والبساط الذي كنت أفترشـه. وأخبرني الناس أن ذلك الككم لا بد له أن يدخل مرسى كولم، فعزمت على السفر إليها، وبينـهما مسيرة عشر في البر أو في النـهر أيضا لمن أراد ذلك. فسافرت في النـهر، واكتريت رجلا من المسلمين يحمل لي البساط. وعادتهم إذا سافروا في ذلك النـهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقري التي على حافتيه، ثم يعودوا إلى المركب بالغدو. فكنا نفعل ذلك. ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته، وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا، ويعربد علي، فيزيد خاطري. ووصلنا في اليوم الخامس من سفرنا إلى كنجي كري  وضبط اسمـها بكاف مضموم ونون ساكن وجيم وياء مد وكاف مفتوح وراء مسكور وياء  ، وهي بأعلى جبل هنالك. يسكنـها اليهود، ولهم أمير منـهم، ويؤدون الجزية لسلطان كولم.

 ذكر القرفة والبقم

صفحة : 285

  وجميع الأشجار التي على هذا النـهر أشجار القرفة والبقم، وهي حطبهم هنالك. ومنـها كنا نقد النار لطبخ طعامنا في ذلك الطريق. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كولم  وضبط اسمـها بفتح الكاف واللام وبينـهما واو  ، وهي أحسن بلاد المليبار، وأسواقها حسان، وتجارها يعرفون بالصوليين.  بضم الصاد  لهم أموال عريضة  ، يشتري أحدهم المركب بما فيه، ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة، كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة، من بلاد العراق. وهو رافضي، ومعه أصحاب له على مذهبه، وهو يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين. وكبير المسلمين بها محمد شاه بندر، وله أخ فاضل كريم اسمـه تقيي الدين. والمسجد الجامع بها عجيب، عمره التاجر خواجه مـهذب. وهذه المدينة أول ما يوالي الصين من بلاد المليبار، وإليها يسافر أكثرهم. والمسلمون بها أعزة محترمون.

 ذكر سلطان كولم

 وهو كافر يعرف بالتيروري  بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء وواو مفتوحين وراء مكسورة وياء  وهو معظم للمسلمين. وله أحكام شديدة على السراق والدعار.

  حكاية

 ومما شاهدت بكولم أن بعض الرماة العراقيين قتل آخر منـهم، وفر إلى دار الآوجي، وكان له مال كثير، وأراد المسلمون دفن المقتول، فمنعهم نواب السلطان من ذلك، وقالوا: لا يدفن حتى تدفعوا لنا قاتله فيقتل به. وتركوه في تابوته على باب الآوجي، حتى أنتن وتغير. فمكنـهم الآوجي من القاتل، ورغب منـهم أن يعطيهم أمواله، ويتركوه حيا، فأبوا ذلك وقتلوه. وحينئذ دفن المقتول.

  حكاية

 أخبرت أن السلطان كولم ركب يوما إلى خارجها، وكان طريقه فيما بين البساتين، ومعه صهره زوج بنته، وهو من أبناء الملوك، فأخذ حبة واحدة من العنبة سقطت من بعض البساتين. وكان السلطان ينظر إليه فأمر بـه عند ذلك، فوسط، وقسم نصفين، وصلب نصفه عن يمين الطريق، ونصفه الآخر عن يساره، وقسمت حبة العنبة نصفين، فوضع على كل نصف منـه نصف منـها، وترك هنالك عبرة للناظرين.

  حكاية

 ومما اتفق نحو ذلك بقالقوط أن ابن أخي النائب عن سلطانـها غصب سيفا لبعض تجار المسلمين فشكا بذلك إلى ابن ، فوعده بالنظر في أمره، وقعد على باب داره. فإذا بابن أخيه متقلد ذلك السيف. فدعاه، فقال: هذا سيف المسلم  قال: نعم. قال: اشتريته منـه  قال: لا. فقال لأعوانـه: أمسكوه. ثم أمر به. فضربت عنقه بذلك السيف. وأقمت بكولم مدة بزاوية الشيخ فخر الدين ابن الشيخ شـهاب الدين الكازروني، شيخ زاوية قالقوط، فلم أتعرف للككم خبرا. وفي أثناء مقامي بها، دخل إليها أرسال ملك الصين الذين كانوا معنا، وكانوا مع أحد تلك الجنوك، فانكسر أيضا، فكساهم تجار الصين، وعادوا إلى بلادهم، ولقيتهم بها بعد. وأردت أن أعود من كولم إلى السلطان لأعلمـه بما اتفق على الهدية، ثم خفت أن يتعقب فعلي ويقول: لم فارقت الهدية  فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنوري، وأقيم عنده، حتى أتعرف خبر الككم، فعدت إلى قالقوط، ووجدت بها بعض مراكب السلطان. فبعث فيها أميرا من العرب يعرف بالسيد أبي الحسن، وهو من البردارية، وهم خواص البوابين، بعثه السلطان بأموال يستجلب بها من قدر عليه من العرب من أرض هرمز والقطيف لمحبته في العرب، فتوجهت إلى هذا الأمير، ورأيته عازما على أن يشتو بقالقوط، وحينئذ يسافر إلى بلاد العرب. فشاورته في العودة إلى السلطان فلم يوافق على ذلك. فسافرت بالبحر من قالقوط، وذلك آخر فصل السفر فيه. فكنا نسير نصف النـهار الأول ثم نرسو إلى الغد. ولقينا في طريقنا أربعة أجفان غزوية. فخفنا منـها، ثم لم يتعرضوا لنا بشر. ووصلنا إلى مدينة هنور، فنزلت إلى السلطان، وسلمت عليه. فأنزلني بدار، ولم يكن لي خديم. وطلب مني أن أصلي معه الصلوات. فكان أكثر جلوسي في مسجده. وكنت أختم القرآن كل يوم، ثم كنت أختم مرتين في اليوم. أبتدئ القراءة بعد صلاة الصبح فأختم عند الزوال، وأجدد الوضوء وأبتدء القراءة فأبتدئ امة الثانية عند الغروب. ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشـهر، واعتكفت فيها أربعين يوما.

 ذكر توجهنا إلى الغزو وفتح سندابور

صفحة : 286

  وكان السلطان جمال الدين قد جهز اثنين وخمسين مركبا وسفرته برسم غزو سندابور. وكان وقع بين سلطانـها وولده خلاف، فكتب ولده إلى السلطان جمال الدين أن يتوجه لفتح سندابور، ويسلم الولد المذكور، ويزوجه السلطان أخته. فلما تجهزت المراكب، ظهر لي أن أتوجه فيها إلى الجهاد. ففتحت المصحف أنظر فيه، فكان في أول الصفح يذكر فيه اسم الله كثيرا  ولينصرن الله من ينصره  فاستبشرت بذلك. وأتى السلطان إلى صلاة العصر، فقلت له: إني أريد السفر. فقال: فأنت إذا تكون أميرهم. فأخبرته بما خرج لي في أول الصفح، فأعجبه ذلك، وعزم على السفر بنفسه. ولم يكن ظهر له ذلك من قبل، فركب مركبا منـها، وأنا معه، وذلك في يوم السبت. فوصلنا عشي الاثنين إلى سندابور، ودخلنا خورها، فوجدنا أهلها مستعدين للحرب، وقد نصبوا المجانيق. فبتنا عليها تلك الليلة. فلما أصبح ضربت الطبول والأنفار والأبواق، وزحفت المراكب، ورموا عليها بالمجانيق. فلقد رأيت حجرا أصاب بعض الواقفين بمقربة من السلطان. ورمى أهل المراكب أنفسهم في الماء، وبأيديهم الترسة والسيوف. ونزل السلطان إلى العكيري، وهو شبه الشلير، ورميت بنفسي في الماء في جملة الناس. وكان عندنا طريدتان مفتوحتا المواخر، فيها الخيل. وهي بحيث يركب الفارس فرسه في جوفها ويتدرع ويخرج. ففعلوا ذلك. وأذن الله في فتحها، وأنزل النصر على المسلمين فدخلنا بالسيف، ودخل معظم الكفار في قصر سلطانـها. فرمينا النار فيه فخرجوا، وقبضنا عليهم. ثم إن السلطان أمنـهم، ورد لهم نساءهم وأولادهم، وكانوا نحو عشرة آلاف، وأسكنـهم بربض المدينة. وسكن السلطان القصر، وأعطى الديار بمقربة منـه لأهل دولته، وأعطاني جارية منـهن، تسمى بلكي، فسميتها مباركة. وأراد زوجها فداءها فأبيت، وكساني فرجية مصرية، وجدت في خزائن الكافر. وأقمت عنده بسندابور من يوم فتحها، وهو الثالث عشر لجمادى الأولى إلى منتصف شعبان. وطلبت منـه الاذن في السفر، فأخذ علي العهد في العودة إليه. وسافرت في البحر إلى هنور، ثم إلى فاكنور، ثم إلى منجرور، ثم إلى هيلي، ثم إلى جرفتن وده فتن وبدفتن وفندرينا وقالقوط، وقد تقدم ذكر جميعها، ثم إلى مدينة الشاليات،  وهي بالشين المعجم والف ولام وياء آخر الحروف وألف وتاء معلوة  ، مدينة من حسان المدن، تصنع بها الثياب المنسوبة لها. وأقمت بها، فطال مقامي، فعدت إلى قالقوط. ووصل إليها غلامان كانا لي بالككم، فأخبراني أن الجارية التي كانت حاملا، وبسببها كان تغير خاطري توفيت وأخذ صاحب الجاوة سائر الجواري، واستولت الأيدي على المتاع، وتفرق أصحابي إلى الصين والجاوة وبنجالة فعدت لما تعرفت هذا، إلى هنور ثم إلى سندابور، فوصلتها في آخر المحرم، وأقمت بها إلى الثاني من شـهر ربيع الآخر. وقدم سلطانـهم الكافر الذي دخلنا عليه برسم أخذها، وهرب إليه الكفار كلهم. وكانت عساكر السلطان متفرقة في القرى، فانقطعوا عنا، وحصرنا الكفار وضيقوا علينا. ولما اشتد الحال خرجت عنـها، وتركتها محصورة، وعدت إلى قالقوط، وعزمت على السفر إلى ذيبة المـهل، وكنت أسمع بأخبارها. فبعد عشرة أيام من ركوبنا البحر بقالقوط وصلنا جزائر ذيبة المـهل، وذيبة على لفظ مؤنث الذيب، والمـهل  بفتح الميم والهاء  . وهذه الجزائر إحدى عجائب الدنيا، وهي نحو ألفي جزيرة، ويكون منـها مائة فما دونـها مجتمعات مستديرة كالحلقة، لها مدخل كالباب، لا تدخل المراكب إلا منـه. وإذا وصل المركب إلى إحداها فلا بد له من دليل من أهلها يسير بـه إلى سائر الجزائر. وهي من التقارب بحيث تظهر رؤوس النخل التي بإحداها عند الخروج من الأخرى، فإن أخطأ المركب سمتها، لم يمكنـه ها، وحملته الريح إلى المعبر أو سيلان. وهذه الجزائر أهلها كلهم مسلمون ذوو ديانة وصلاح. وهي منقسمة إلى أقاليم، على كل إقليم وال يسمونـه الكردوبي. ومن أقاليمـها إقليم بالبور  وهو بباءين معقودتين وكسر اللام وآخره راء  ، ومنـها كنلوس  بفتح الكاف والنون مع تشديدها وضم اللام وواو وسين مـهمل  ، ومنـها إقليم المـهل، وبه تعرف الجزائر كلها. وبها يسكن سلاطينـها. ومنـها إقليم تلاديب  بفتح التاء المعلوة واللام والف ودال مـهمل وباء مد وباء موحدة  ، ومنـها إقليم كارايدو  بفتح الكاف وسكون الياء المسفولة وضم الدال المـهمل وواو  ، منـها إقليم التيم  بفتح التاء

صفحة : 287

  المعلوة وسكون الياء المسفولة  ، ومنـها إقليم تلدمتي  بفتح التاء المعلوة الاول واللام وضم الدال المـهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء  ، ومنـها إقليم هلدمتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلا ان الهاء أوله، ومنـها إقليم برويدو  بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المـهمل وواو  ، ومنـها إقليم كندكل  بفتح الكافين والدال المـهمل ولام  ، ومنـها إقليم ملوك  بضم الميم، ومنـها إقليم السويد  بالسين المـهمل  ، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها، إلا أن في إقليم السويد منـها زرعا يشبة أتلي، ويجلب منـه إلى المـهل. وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، يسمونـه قلب الماس  بضم القاف  ، ولحمـه أحمر، ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منـه أربع قطع، وطبخوه يسيرا ثم جعلوه في مكائيل من سعف النخل، وعلقوه للدخان. فإذا استحكم يبسه أكلوه. ويحمل منـها إلى الهند والصين واليمن، ويسمونـه قلب الماس  بضم القاف  .لوة وسكون الياء المسفولة  ، ومنـها إقليم تلدمتي  بفتح التاء المعلوة الاول واللام وضم الدال المـهمل وفتح الميم وتشديدها وكسر التاء الأخرى وياء  ، ومنـها إقليم هلدمتي، وهو مثل اللفظ الذي قبله إلا ان الهاء أوله، ومنـها إقليم برويدو  بفتح الباء الموحدة والراء وسكون الياء وضم الدال المـهمل وواو  ، ومنـها إقليم كندكل  بفتح الكافين والدال المـهمل ولام  ، ومنـها إقليم ملوك  بضم الميم، ومنـها إقليم السويد  بالسين المـهمل  ، وهو أقصاها. وهذه الجزائر كلها لا زرع بها، إلا أن في إقليم السويد منـها زرعا يشبة أتلي، ويجلب منـه إلى المـهل. وإنما أكل أهلها سمك يشبه الليرون، يسمونـه قلب الماس  بضم القاف  ، ولحمـه أحمر، ولا زفر له، إنما ريحه كريح لحم الأنعام، وإذا اصطادوه قطعوا السمكة منـه أربع قطع، وطبخوه يسيرا ثم جعلوه في مكائيل من سعف النخل، وعلقوه للدخان. فإذا استحكم يبسه أكلوه. ويحمل منـها إلى الهند والصين واليمن، ويسمونـه قلب الماس  بضم القاف  .

  ذكر أشجارها

 ومعظم أشجار هذه الجزائر النارجيل، وهو من أقواتهم مع السمك، وقد تقدم ذكره. وأشجار النارجيل شأنـها عجيب. وتثمر النخل منـها اثنى عشر عذقا في السنة، يخرج في كل شـهر عذق، فيكون بعضها صغيرا وبعضها كبيرا وبعضها يابسا وبعضها أخضر، هكذا أبدا. ويصنعون منـها الحليب والزيت والعسل، حسب ما ذكرنا لك في السفر الأول. ويصنعون من عسله الحلواء، فيأكلونـها مع الجوز اليابس منـه. ولذلك كله، وللسمك الذي يغتذون بـه قوة عجيبة في الباءة، لا نظير لها. ولأهل هذه الجزائر عجب في ذلك. ولقد كان لي بها أربع نسوة وجوار سواهن، فكنت أطوف على جميعهن كل يوم، وأبيت عند من تكون ليلتها. وأقمت بها سنة ونصف أخرى على ذلك. ومن أشجارها الجموح والأترج والليمون والقلقاص، وهم يصنعون من أصوله دقيقا يعملون منـه شبه الأطرية، ويطبخونـها بحليب النارجيل، وهي من أطيب الطعام. كنت أستحسنـها كثيرا وآكلها.

  ذكر أهل هذه الجزائر وبعض عوائدهم

  وذكر مساكنـهم

صفحة : 288

  وأهل هذه الجزائر أهل صلاح وديانة وإيمان صحيح ونية صادقة، أكلهم حلال، دعاؤهم مجاب. وإذا رأى الإنسان أحدهم قال له: الله ربي ومحمد نبيي وأنا أمي مسكين. وأبدانـهم ضعيفة، ولا عهد لهم بالقتال والمحاربة، وسلاحهم الدعاء. ولقد أمرت مرة بقطع يد سارق بها، فغشي على جماعة منـهم كانوا بالمجلس. ولا تطرقهم لصوص الهند، ولا تذرعهم لأنـهم جربوا أن من أخذ لهم شيئا أصابته مصيبة عاجلة. وإذا أتت أجفان العدو إلى ناحيتهم أخذوا من وجدوا من غيرهم، ولم يتعرضوا لأحد منـهم بسوء. وإن أخذ أحد الكفار، ولو ليمونة، عاقبه أمير الكفار وضربه الضرب المبرح، خوفا من عاقبة ذلك. ولولا هذا لكانوا أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم. وفي كل جزيرة من جزائرهم المساجد الحسنة، وأكثر عمارتهم بالخشب. وهم أهل نظافة وتنزه عن الأقذار. وأكثرهم يغتسلون مرتين في اليوم تنظفا لشدة الحر بها، وكثرة العرق. ويكثرون من الأدهان العطرية كالصندلية وغيرها، ويتلطخون بالغالية المجلوبة من مقدشو. ومن عادتهم أنـهم إذا صلوا الصبح أتت كل امرأة إلى زوجها أو ابنـها بالمكحلة وماء الورد ودهن الغالية، فيكحل عينيه، ويدهن بماء الورد ودهن الغالية، فتصقل بشرته، وتزيل الشحوب عن وجهه. ولباسهم فوط، يشدون الفوطة منـها على أوساطهم عوض السراويل، ويجعلون على ظهورهم ثياب الوليان  بكسر الواو وسكون اللام وياء  وهي شبه الأحاريم. وبعضهم يجعل عمامة، وبعضهم منديلا صغيرا عوضا منـها. وإذا لقي أحدهم القاضي أو الخطيب، وضع ثوبه على كتفيه، وكشف ظهره، ومضى معه كذلك، حتى يصل إلى منزله. ومن عوائدهم أنـه إذا تزوج الرجل منـهم، ومضى إلى دار زوجته، بسطت له ثياب القطن من باب دارها إلى باب البيت، وجعل عليها غرفات من الودع عن يمين طريقه إلى البيت وشماله، وتكون المرأة واقفة عند باب البيت تنتظره. فإذا وصل إليها رمت على رجليه ثوبا يأخذه خدامـه، وإن كانت المرأة هي التي تأتي إلى منزل الرجل بسطت داره، وجعل فيها الودع، ورمت المرأة عند الوصول إليه الثوب على رجليه. وكذلك عادتهم في السلام على السلطان عندهم، لا بد من ثوب يرمى عند ذلك، وسنذكره.

 وبنيانـهم بالخشب، ويجعلون سطوح البيوت مرتفعة عن الأرض توقيا من الرطوبات، لأن أرضهم ندية. وكيفية ذلك أن ينحتوا حجارة يكون طول الحجر منـها ذراعين أو ثلاثة، ويجعلونـها صفوفا، ويعرضون عليها خشب النارجيل، ثم يصنعون الحيطان من الخشب. ولهم صناعة عجيبة في ذلك، ويبنون في إسطوان الدار بيتا يسمونـه المالم  بفتح اللام  ، يجلس الرجل بـه مع أصحابه، ويكون له بابان: أحدهما إلى جهة الأسطوان يدخل منـه الناس، والآخر إلى جهة الدار يدخل منـه صاحبها. ويكون عند هذا البيت خابية مملوءة ماء، ولها مستقى، يسمونـه الوالنج  بفتح الواو واللام وسكون النون وجيم  ، هو من قشر جوز النارجيل، وله نصاب، طوله ذراعان. وبه يسقون الماء من الآبار لقربها. وجميعهم حفاة الأقدام من رفيع ووضيع، وأزقتهم مكنوسة نقية، تظللها الأشجار. فالماشي بها كأنـه في بستان. ومع ذلك لا بد لكل داخل إلى الدار أن يغسل رجليه بالماء الذي في الخابية بالمالم، ويمسحها بحصير غليظ من الليف، يكون هنالك، ثم يدخل بيته. وكذلك يفعل كل داخل إلى المسجد.

صفحة : 289

  ومن عوائدهم إذا قدم عليهم مركب، أن تخرج إليه الكنادر، وهي القوارب الصغار، واحدها كندرة  بضم الكاف والدال  . وفيها أهل الجزيرة معهم التنبول أو الكرنبة، وهو جوز النارجيل الأخضر، فيعطي الإنسان منـهم ذلك لمن شاء من أهل المركب، ويكون نزيله، ويحمل أمتعته إلى داره، كأنـه بعض أقربائه. ومن أراد التزوج من القادمين عليهم تزوج. فإذا حان سفره، طلق المرأة لأنـهن لا يخرجن عن بلادهن. ومن لم يتزوج، فالمرأة التي ينزل بدارها، تطبخ له وتخدمـه وتزوده إذا سافر، وترضى منـه في مقابلة ذلك بأيسر شيء من الإحسان. وفائدة المخزن، ويسمونـه البندر، أن يشتري من كل سلعة بالمركب حظا بسوم معلوم، سواء كانت السلعة تساوي ذلك أو أكثر منـه، ويسمونـه شرع البندر. ويكون للبندر بيت في كل جزيرة من الخشب، يسمونـه البجنصار  بفتح الباء الموحدة والجيم وسكون النون وفتح الصاد المـهمل وآخره راء  ، يجمع بـه الوالي وهو الكردوري جميع سلعه، ويبيع بها ويشتري. وهم يشترون الفخار إذا جلب إليهم بالدجاج. فتباع عندهم القدر بخمس دجاجات وست، وتحمل المراكب من هذه الجزائر السمك الذي ذكرناه وجوز النارجيل والفوط والوليان والعمائم، وهي من القطن، ويحملون منـها أواني النحاس. فإنـها عندهم كثيرة، ويحملون الودع، ويحملون القنبر  بفتح القاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة والراء  ، وهو ليف جوز النارجيل. وهم يدبغونـه في حفر على الساحل، ثم يضربونـه بالمرازب، ثم تغزله النساء، وتصنع منـه الحبال لخياطة المراكب، وتحمل إلى الصين والهند واليمن، وهو خير من القنب. وبهذه الحبال تخاط مراكب الهند واليمن، لأن ذلك البحر كثير الحجارة، فإن كان المركب مسمرا بمسامير الحديد صدم الحجارة فانكسر، وإذا كان مخيطا بالحبال أعطى الرطوبة فلم ينكسر. وصرف أهل الجزائر الودع، وهو حيوان يلتقطونـه في البحر، ويضعونـه في حفر هنالك، فيذهب لحمـه، ويبقى عظمـه أبيض، ويسمون المائة منـه سياه  بسين مـهمل وياء آخر الحروف  ، ويسمون السبعمائة منـه الفال  بالفاء  ، ويسمون الثني عشر ألفا منـه الكتي  بضم الكاف وتشديد التاء المعلوة  ، ويسمون المائة ألف منـه بستو  بضم الباء الموحدة والتاء المعلوة وبينـهما سين مـهمل  ، ويباع بها بقيمة أربعة بساتي بدينار من الذهب، وربما رخص حتى يباع عشر بساتي منـه بدينار. ويبيعونـه من أهل بنجالة بالأرز، وهو أيضا صرف أهل بلاد بنجالة. ويبيعونـه من أهل اليمن، فيجعلونـه عوض الرمل في مراكبهم. وهذا الودع أيضا هو صرف السودان في بلادهم، رأيته يباع بمالي وجوجو بحساب ألف وخمسين للدينار الذهبي.

  ذكر نسائها

صفحة : 290

  ونساؤها لا يغطين رؤوسهن، ولا سلطانتهم تغطي رأسها. ويمشطن شعورهن، ويجمعنـها إلى جهة واحدة. ولا يلبسن أكثرهن إلا فوطة واحدة تسترها من السرة إلى أسفل، وسائر أجسادهن مكشوفة. وكذلك يمشين في الأسواق وغيرها. ولقد جهدت لما وليت القضاء بها أن أقطع تلك العادة وآمرهن باللباس، فلم أستطع ذلك. فكنت لا تدخل إلي منـهن امرأة في خصومة إلا مسترة الجسد، وما عدا ذلك لم تكن عليه قدرة. ولباس بعضهن قمص زائدة على الفوطة، وقمصهن قصار الأكمام عراضها. وكان لي جوار كسوتهن لباس أهل دهلي يغطين رؤوسهن، فعابهن ذلك أكثر ما زانـهن إذ لم يتعودنـه. وحليهن الأساور وتجعل المرأة منـها جملة في ذراعيها، بحيث تملأ ما بين الكوع والمرفق، وهي من الفضة. ولا تحمل أساور الذهب إلا نساء السلطان وأقاربه. ولهن الخلاخيل، ويسمونـها البايل  بباء موحدة والف وياء آخر الحروف مكسورة  ، وقلائد ذهب يجعلنـها على صدورهن، ويسمونـها البسدر  بالباء الموحدة وسكن السين المـهمل وفتح الدال المـهمل والراء  . ومن عجيب أفعالهن أنـهن يؤجرن أنفسهن للخدمة بالديار على عدد معلوم من خمسة دنانير فما دونـها. وعلى مستأجرهن نفقتهن، ولا يرين ذلك عيبا، ويفعله أكثر بناتهم. فتجد في دار الإنسان الغني منـهن العشرة والعشرين. وكل ما تكسره من الأواني يحسب عليها قيمته. وإذا أرادت الخروج من دار إلى دار أعطاها أهل الدار التي تخرج إليها العدد الذي هي مرتهنة فيه، فتدفعه لأهل الدار التي خرجت منـها، ويبقى عليها للآخرين. وأكثر شغل هؤلاء المسأجرات غزل القنبر. والتزوج بهذه الجزائر سهل، لنزارة الصداق وحسن معاشرة النساء. وأكثر الناس لا يسمي صداقا، إنما تقع الشـهادة، ويعطى صداق مثلها. وإذا قدمت المراكب تزوج أهلها النساء، فإذا أرادوا السفر طلقوهن، وذلك نوع من نكاح المتعة. وهن لا يخرجن عن بلادهن أبدا. ولم أر في الدنيا أحسن معاشرة منـهن. ولا تكل المرأة عندهم خدمة زوجها لسواها، بل هي تأتيه بالطعام، وترفعه بين يديه، وتغسل يده، وتأتيه بالماء للوضوء، وتغم رجليه عند النوم. ومن عوائدهن أن لا تأكل المرأة مع زوجها، ولا يعلم الرجل ما تأكله المرأة. ولقد تزوجت بها نسوة، فأكل معي بعضهن بعد محاولة، وبعضهن لم تأكل معي، ولا استطعت أن أراها تأكل، ولا نفعتني حيلة في ذلك.

  ذكر السبب في إسلام هذه الجزائر

  وذكر العفاريت من الجن التي تضربها في كل شـهر

صفحة : 291

  حدثني الثقات من أهلها كالفقيه عيسى اليمني، والفقيه المعلم علي، والقاضي عبد الله وجماعة سواهم، أن أهل هذه الجزائر كانوا كفارا، وكان يظهر لهم في كل شـهر عفريت من الجن، يأتي ناحية البحر، كأنـه مركب مملوء بالقناديل. وكانت عادتهم إذا رأوه، أخذوا جارية بكرأ فزينوها وأدخلوها إلى بدخانة. وهي بيت الأصنام، وكان مبنيا على ضفة البحر، وله طاق ينظر إليه، ويتركونـها هنالك ليلة، ثم يأتون عند الصباح فيجدونـها مفتضة ميتة. ولا يزالون في كل شـهر يقترعون بينـهم، فمن أصابته القرعة أعطى بنته. ثم إنـهم قدم عليهم مغربي يسمى بأبي البركات البربري، وكان حافظا للقرآن العظيم، فنزل بدار عجوز منـهم بجزيرة المـهل، فدخل عليها يوما، وقد جمعت أهلها، وهن يبكين كأنـهن في مأتم. فاستفهمـهن عن شأنـهن، فلم يفهمنـه. فأتى ترجمان فأخبره أن العجوز كانت القرعة عليها، وليس لها إلا بنت واحدة، يقتلها العفريت. فقال لها أبو البركات: أنا أتوجه عوضا من بنتك بالليل. وكان سناطا، لا لحية له، فاحتملوه تلك الليلة، وأدخلوه إلى بدخانة، وهو متوضئ. وأقام يتلو القرآن، ثم ظهر له العفريت من الطاق، فداوم التلاوة، فلما كان منـه بحيث يسمع القراءة غاص في البحر. وأصبح المغربي، وهو يتلو على حاله. فجاءت العجوز وأهلها وأهل الجزيرة، ليستخرجوا البنت على عادتهم فيحرقوها، فوجدوا المغربي يتلو، فمضوا بـه إلى ملكهم، وكان يسمى شنورازة  بفتح الشين المعجم وضم النون وواو وراء والف وزاي وهاء  ، وأعلموه بخبره، فعجب. وعرض المغربي عليه الإسلام، ورغبه فيه. فقال له أقم عندنا إلى الشـهر الآخر، فإن فعلت كفعلك، ونجوت من العفريت أسلمت. فأقام عندهم. وشرح الله صدر الملك للإسلام فأسلم قبل تمام الشـهر، وأسلم أهله وأولاده وأهل دولته. ثم حمل المغربي لما دخل الشـهر إلى بدخانة، ولم يأت العفريت، فجعل يتلو حتى الصباح. وجاء السلطان والناس معه فوجدوه على حاله من التلاوة، فكسروا الأصنام، وهدموا بدخانة، وأسلم أهل الجزيرة، وبعثوا إلى سائر الجزائر فأسلم أهلها. وأقام المغربي عندهم معظما، وتمذهبوا بمذهبه مذهب الإمام مالك رضي الله عنـه. وهم إلى هذا العهد يعظمون المغاربة بسببه، وبنى مسجدا هو معروف باسمـه، وقرأت على مقصورة الجامع منقوشا في الخشب أسلم السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي. وجعل ذلك السلطان ثلث مجابي الجزائر صدقة على أبناء السبيل، إذ كان إسلامـه بسببهم. فسمي على ذلك حتى الآن. وبسبب هذا العفريت خرب من هذه الجزائر كثير قبل الإسلام.

 ولما دخلناها لم يكن لي علم بشأنـه. فبينا أنا ذات ليلة في بعض شأني، إذ سمعت الناس يجهرون بالتهليل والتكبير، ورأيت الأولاد، وعلى رؤوسهم المصاحف، والنساء يضربن في الطسوت وأواني النحاس. فعجبت من فعلهم، وقلت ما شأنكم  فقالوا: ألا تنظر إلى البحر  فنظرت فإذا مثل المركب الكبير، وكأنـه مملوء سرجا ومشاعل. فقالوا: ذلك العفريت، وعادته أن يظهر مرة في الشـهر. فاذا فعلنا ما رأيت انصرف عنا ولم يضرنا.

  ذكر سلطانة هذه الجزائر

صفحة : 292

  ومن عجائبها أن سلطانتها امرأة، وهي خديجة بنت السلطان جلال الدين عمر ابن السلطان صلاح الدين صالح البنجالي. وكان الملك لجدها ثم لأبيها، فلما مات أبوها ولي أخوها شـهاب الدين، وهو صغير السن. فتزوج الوزير عبد الله ابن محمد الحضرمي أمـه، وغلب عليه، وهو الذي تزوج أيضا هذه السلطانة خديجة بعد وفاة زوجها الوزير جمال الدين، كما سنذكره. فلما بلغ شـهاب الدين مبلغ الرجال، أخرج ربيبه الوزير عبد الله، ونفاه إلى جزائر السويد. واستقل بالملك، واستوزر أحد مواليه، ويسمى علي كلكي، ثم عزله بعد ثلاثة أعوام، ونفاه إلى السويد. وكان يذكر عن السلطان شـهاب الدين المذكور أنـه يختلف إلى حرم أهل دولته وخواصه بالليل، فخلعوه لذلك ونفوه إلى إقليم هلدتني، وبعثوا من قتله بها. ولم يكن بقي من بيت الملك إلا أخواته خديجة الكبرى ومريم وفاطمة، فقدموا خديجة سلطانة، وكانت متزوجة لخطيبهم جمال الدين، فصار وزيرا وغالبا على الأمر، وقدم ولده محمدا للخطابة عوضا منـه. ولكن الأوامر إنما تنفذ باسم خديجة. وهم يكتبون الأوامر في سعف النخل بحديدة معوجة شبه السكين. ولا يكتبون في الكاغد إلا المصاحف وكتب العلم، ويذكرها الخطيب يوم الجمعة، وغيرها، فيقول: اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدين ابن السلطان صلاح الدين. ومن عادتهم إذا قدم الغريب عليهم، ومضى إلى المشور، وهم يسمونـه الدار، فلا بد له أن يستصحب ثوبين، فيخدم لجهة هذه السلطانة، ويرمي بأحدهما، ثم يخدم لوزيرها، وهو زوجها جمال الدين، ويرمي بالثاني. وا نحو ألف نفر من الغرباء، وبعضهم بلديون. ويأتون كل يوم إلى الدار، فيخدمون وينصرفون. ومرتبهم الأرز يعطاهم من البندر في كل شـهر، فإذا تم الشـهر أتوا الدار، وخدموا، وقالوا للوزير: بلغ عنا الخدمة، واعلم بأنا أتينا بطلب مرتبنا. فيؤمر لهم بـه عند ذلك. ويأتي أيضا إلى الدار كل يوم القاضي وأرباب الخطط، وهم الوزراء عندهم، فيخدمون، ويبلغ خدمتهم الفتيان، وينصرفون.

  ذكر أرباب الخطط وسيرهم

 وهم يسمون الوزير الأكبر النائب عن السلطانة كلكي  بفتح الكاف الأولى واللام  ، ويسمون القاضي فندريارقالوا  وضبط ذلك بفاء مفتوح ونون مسكن ودال مـهمل مفتوح وياء آخر الحروف والف وراء وقاف والف ولام مضموم  ، وأحكامـهم كلها راجعة إلى القاضي، وهو أعظم عندهم من الناس أجمعين، وأمره كأمر السلطان وأشد، ويجلس على بساط في الدار. وله ثلاث جزائر، يأخذ مجباها لنفسه. عادة قديمة أجراها السلطان أحمد شنورازة. ويسمون الخطيب هنديجري  بفتح الهاء وسكون النون وكسر الدال وياء مد وجيم مفتوح وراء وياء  . ويسمون صاحب الديوان الفاملداري  بفتح الفاء والميم والدال المـهمل  ، واسم صاحب الأشغال مافاكلو  بفتح الميم والكاف وضم اللام  ، واسم الحاكم فتنايك  بكسر الفاء وسكون التاء المعلوة وفتح النون والف وياء آخر الحروف مفتوحة أيضا وكاف  ، واسم قائد البحر مانايك  بفتح الميم والنون والياء  . وكل من هؤلاء يسمى وزيرا. ولا سجن عندهم بتلك الجزائر، إنما يحبس أرباب الجرائم في بيوت خشب، هي معدة لأمتعة التجار، ويجعل أحدهم في خشبة، كما يفعل عندنا بأسارى الروم.

  ذكر وصولي إلى هذه الجزائر وتنقل حالي بها

 ولما وصلت إليها نزلت بجزيرة كنلوس، وهي جزيرة حسنة فيها المساجد الكثيرة. ونزلت بدار رجل من صلحائها، وأضافني بها الفقيه علي، وكان فاضلا، له أولاد من طلبة العلم. ولقيت بها رجلا اسمـه محمد من أهل ظفار الحموض، فأضافني وقال لي: إن دخلت جزيرة المـهل أمسكك الوزير بها. فإنـهم لا قاضي عندهم. وكان غرضي أن أسافر منـها إلى المعبر وسرنديب وبنجالة ثم إلى الصين. وكان قدومي عليها في مركب الناخوذة عمر الهنوري، وهو من الحجاج الفضلاء.

صفحة : 293

  ولما وصلنا كنلوس أقام بها عشرا، ثم اكترى كندرة يسافر فيها إلى المـهل، بهدية للسلطانة وزوجها، فأردت السفر معه، فقال: لا تسعك الكندرة أنت وأصحابك. فإن شئت السفر منفردا عنـهم فدونك، فأبيت ذلك، وسافر. فلعبت بـه الريح، وعاد إلينا بعد أربعة أيام، وقد لقي شدائد. فاعتذر لي، وعزم علي في السفر معه بأصحابي، فكنا نرحل غدوة، فننزل في وسط النـهار لبعض الجزائر، ونرحل فنبيت بأخرى.

 ووصلنا بعد أيام إلى إقليم التيم. وكان الكردوي يسمى بها هلالا، فسلم علي وأضافني. وجاء إلي ومعه أربعة رجال، وقد جعل اثنان منـهم، عودا على أكتافهما، وعلقا منـه أربع دجاجات، وجعل الآخران عودا مثله، وعلقا منـه نحو عشر من جوز النارجيل. فعجبت من تعظيمـهم لهذا الشيء الحقير. فأخبرت أنـهم صنعوه على جهة الكرامة والإجلال. ورحلنا عنـهم فنزلنا في اليوم السادس بجزيرة عثمان، وهو رجل فاضل من خيار الناس، فأكرمنا وأضافنا. وفي اليوم الثامن نزلنا بجزيرة الوزير، يقال له التلمذي. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى جزيرة المـهل، حيث السلطانة وزوجها. وأرسينا بمرساها. وعادتهم أن لا ينزل أحد من المرسى إلا بإذنـهم. فأذنوا لنا بالنزول، وأردت التوجه إلى بعض المساجد فمنعني الخدام الذين بالساحل، وقالوا: لا بد من ال إلى الوزير.

 وكنت أوصيت الناخوذة أن يقول إذا سئل عني: لا أعرفه، خوفا من إمساكهم إياي. ولم أعلم أن بعض أهل الفضول، قد كتب إليهم معرفا بخبري، وأني كنت قاضيا بدهلي، فلما وصلت إلى الدار، وهو المشور، ونزلنا في سقائف على الباب الثالث منـه، وجاء القاضي عيسى اليمني، فسلم علي، وسلمت على الوزير، وجاء الناخوذة إبراهيم بعشرة أثواب، فخدم لجهة السلطانة، ورمى بثوب منـها، ثم خدم للوزير، ورمى بثوب آخر، ورمى بجميعها، وسئل عني فقال: لا أعرفه. ثم أخرجوا التنبول وماء الورد، وذلك هو الكرامة عندهم، وأنزلنا بدار، وبعث إلينا الطعام، وهو قصعة كبيرة فيها الأرز، وتدور بها صحاف فيها اللحم الخليع والدجاج والسمن والسمك. ولما كان بالغد مضيت مع الناخوذة والقاضي عيسى اليمني لزيارة زاوية في طرف الجزيرة، عمرها الشيخ الصالح نجيب، وعدنا ليلا. وبعث الوزير إلي صبيحة تلك الليلة كسوة وضيافة، فيها الأرز والسمن والخليع وجوز النارجيل والعسل المصنوع منـها، وهم يسمونـه القرباني  بضم القاف وسكون الراء وفتح الباء الموحدة والف ونون وياء  ، ومعنى ذلك ماء السكر. وأتوا بمائة ودعة للنفقة. وبعد عشرة أيام قدم مركب من سيلان فيه فقراء من العرب والعجم يعرفونني. فعرفوا خدام الوزير بأمري، فزاد اغتباطي. وبعث عني عند استهلال رمضان، فوجدت الأمراء والوزراء. وأحضر الطعام في موائد، يجتمع على المائدة طائفة. فأجلسني الوزير إلى جانبه، ومعه القاضي عيسى، والوزير الفاملداري ؛ والوزير عمر دهرد، ومعناه مقدم العسكر. وطعامـهم الأرز والدجاج والسمن والسمك والخليع والموز المطبوخ، ويشربون بعده عسل النارجيل مخلوطا بالأفاويه، وهو يهضم الطعام. وفي التاسع من شـهر رمضان مات صهر الوزير زوج بنته، وكانت قبله عند السلطان شـهاب الدين، ولم يدخل بها أحد منـهما لصغرها، فردها أبوها لداره، وأعطاني دارها، وهي من أجمل الدور. واستأذنته في ضيافة الفقراء القادمين من زيارة القدم فأذن لي في ذلك، وبعث إلي خمسا من الغنم، وهي عزيزة عندهم، لأنـها مجلوبة من المعبر والمليبار ومقدشو، وبعث الأرز والدجاج والسمن والأبازير. فبعثت ذلك كله إلى دار الوزير سليمان مانايك، فطبخ لي بها، فأحسن في طبخه وزاد فيه، وبعث الفرش وأواني النحاس، وأفطرنا على العادة بدار السلطانة مع الوزير. واستأذنته في حضور بعض الوزراء بتلك الضيافة، فقال لي: وأنا أحضر أيضا، فشكرته وانصرفت إلى داري، فإذا بـه قد جاء، ومعه الوزراء وأرباب الدولة. فجلس في قبة خشب مرتفعة. وكان كل من يأتي من الأمراء والوزراء يسلم على الوزير، ويرمي بثوب غير مخيط، حتى اجتمع مائة ثوب أو نحوها، فأخذها الفقراء. وقدم الطعام فأكلوا، ثم قرأ القراء بالأصوات الحسان، ثم أخذوا في السماع وال. وأعدت النار، فكان الفقراء يدخلونـها ويطأونـها بالأقدام، ومنـهم من يأكلها، كما تؤكل الحلواء، إلى أن خمدت.

  ذكر بعض إحسان الوزير إلي

صفحة : 294

  ولما تمت الليلة انصرف الوزير، ومضيت معه، فمررنا ببستان للمخزن. فقال لي الوزير: هذا البستان لك، وسأعمر لك فيه دارا لسكناك. فشكرت فعله، ودعوت له. ثم بعث لي من الغد بجارية وقال لي خديمـه: يقول لك الوزير: إن أعجبتك هذه فهي لك، وإلا بعثت لك جارية مرهتية، وكانت الجواري المرهتيات تعجبني، فقلت له: إنما أريد المرهتية، فبعثها لي، وكان اسمـها قل استان، ومعناه زهر البستان، وكانت تعرف اللسان الفارسي فأعجبتني. وأهل تلك الجزائر لهم لسان لم أكن أعرفه، ثم بعث إلي في غد ذلك بجارية معبرية تسمى عنبري. ولما كانت اللية بعدها، جاء الوزير إلي بعد العشاء الأخيرة في نفر من أصحابه، فدخل الدار، ومعه غلامان صغيران، فسلمت عليه، وسألني عن حالي، فدعوت له وشكرته، فألقى أحد الغلامين بين يديه لقشة  بقشة  ، وهي شبه السبنية، وأخرج منـها ثياب حرير، وحقا فيه جوهر فأعطاني ذلك، وقال لي: لو بعثته لك مع الجارية، لقالت هو مالي جئت بـه من دار مولاي، والآن هو مالك، فأعطه إياه. فدعوت له وشكرته، وكان أهلا للشكر، رحمـه الله.

  ذكر تغيره وما أردته من الخروج ومقامي بعد ذلك

 وكان الوزير سليمان مانايك قد بعث إلي أن أتزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين مستأذنا في ذلك. فعاد إلي الرسول، وقال: لم يعجبه ذلك، وهو يحب أن يزوجك بنته، إذا انقضت عدتها. فأبيت أنا ذلك، وخفت من شؤمـها، لأنـه مات تحتها زوجان قبل ال، وأصابتني أثناء ذلك حمى مرضت بها. ولا بد لكل من يدخل، تلك الجزيرة أن يحم، فقوي عزمي علىالرحلة عنـها، فبعت بعض الحلي بالودع، واكتريت مركبا أسافر فيه لبنجالة. فلما ذهبت لوداع الوزير خرج إلي القاضي فقال: الوزير يقول لك: إن شئت السفر، فأعطنا ما أعطيناك وسافر. فقلت له: إن بعض الحلي اشتريت بـه الودع، فشأنكم وإياه. فعاد إلي فقال: يقول: إنما أعطيناك الذهب ولم نعطك الودع. فقلت له: أنا أبيعه، وآتيكم بالذهب. فبعثت إلى التجار ليشتروه مني، فأمرهم الوزير أن لا يفعلوا. وقصده بذلك كله أن لا أسافر عنـه. ثم بعث إلي أحد خواصه وقال: الوزير يقول لك: أقم عندنا، ولك كل ما أحببت. فقلت في نفسي: أنا تحت حكمـهم، وإن لم أقم مختارا أقمت مضطرا، فالإقامة باختياري أولى. وقلت لرسوله: نعم، أنا أقيم معه. فعاد إليه ففرح بذلك، واستدعاني. فلما دخلت إليه قام إلي وعانقني وقال: نحن نريد قربك، وأنت تريد البعد عنا. فاعتذرت له، فقبل عذري، وقلت له: إن أردتم مقامي فأنا اشترط عليكم شروطا. فقال: نقبلها فاشترط. فقلت له: أنا لا أستطيع المشي على قدمي، ومن عادتهم أن لا يركب أحد هناك إلا الوزير. ولقد كنت لما أعطوني الفرس فركبته، يتبعني الناس رجالا وصبيانا، يعجبون مني حتى شكوت له. فضربت الدنقرة، وبرح في الناس أن لا يتبعني أحد، والدنقرة  بضم الدال المـهمل وسكون النون وضم القاف وفتح الراء  شبه الطست من النحاس تضرب بحديدة، فيسمع لها صوت على البعد. فإذا ضربوها حينئذ يبرح في الناس بما يراد. فقال لي الوزير: إن أردت أن تركب الدولة وإلا فعندنا حصان ورمكة ، فاختر أيهما شئت. فاخترت الرمكة. فأتوني بها في تلك الساعة، وأتوني بكسوة. فقلت له: وكيف أصنع بالودع الذي اشتريته  فقال: ابعث أحد أصحابك ليبيعه لك ببنجالة، فقلت له: على أن تبعث أنت من يعينـه على ذلك. فقال: نعم. فبعث حينئذ رفيقي أبا محمد بن فرحان، وبعثوا معه رجلا يسمى الحاج عليا، فاتفق أن هال البحر، فرموا بكل ما عندهم، حتى الزاد والماء والصاري والقربة. وأقاموا ست عشرة ليلة لا قلع لهم ولا سكان ولا غيره. ثم خرجوا إلى جزيرة سيلان، بعد جوع وعطش وشدائد وقدم علي صاحبي أبو محمد بعد سنة، وقد زار القدم، وزارها مرة ثانية معي.

  ذكر العيد الذي شاهدته معهم

صفحة : 295

  ولما تم شـهر رمضان بعث الوزير إلي بكسوة، وخرجنا إلى المصلى، وقد زينت الطريق التي يمر الوزير عليها من داره إلى المصلى، وفرشت الثياب فيها، وجعلت كتاتي الودع يمنة ويسرة. وكل من له على طريقه دار من الأمراء والكبار، قد غرس عندها النخل الصغار من النارجيل وأشجار الفوفل والموز، ومد من شجرة إلى أخرى شرائط، وعلق منـها الجوز الأخضر. ويقف صاحب الدار عند بابها، فإذا مر الوزير رمى على رجليه ثوبا من الحرير أو القطن، فيأخذه عبيده مع الودع الذي يجعل على طريقه أيضا، والوزير ماش على قدميه، وعليه فرجية مصرية من المرعز، وعمامة كبيرة، وهو متقلد فوطة حرير، وفوق رأسه أربعة شطور، وفي رجليه النعل، وجميع الناس سواه حفاة. والأبواق والأنفار والأطبال بين يديه، والعساكر أمامـه وخلفه، وجميعهم يكبرون حتى أتوا المصلى، فخطب ولده بعد الصلاة. ثم أتي بمحفة فركب فيها الوزير وخدم الأمراء والوزراء، ورموا بالثياب على العادة. ولم يكن ركب في المحفة قبل ذلك، لأن ذلك لا يفعله إلا الملوك. ثم رفعه الرجال، وركبت فرسي ودخلنا القصر. فجلس بموضع مرتفع، وعنده الوزراء والأمراء، ووقف العبيد بالترسة والسيوف والعصي، ثم أتي بالطعام ثم الفوفل والتنبول، ثم أتي بصحفة صغيرة فيها الصندل المقاصري. فإذا أكلت جماعة من الناس تلطخوا بالصندل. ورأيت على بعض طعامـهم يومئذ حوتا من السردين مملوحا غير مطبوخ، أهدي لهم من كولم، وهو في بلاد المليبار كثير. فأخذ الوزير سردينة وجعل يأكلها. وقال لي: كل منـه، فإنـه ليس ببلادنا. فقلت: كيف آكله وهو غير مطبوخ فقال: إنـه مطبوخ. فقلت: أنا أعرف به، فإنـه ببلادي كثير.

  ذكر تزوجي وولايتي القضاء

 وفي الثاني من شوال اتفقت مع الوزير سليمان مانايك على تزوج بنته، فبعثت إلى الوزير جمال الدين أن يكون عقد النكاح بين يديه بالقصر، فأجاب إلى ذلك، وأحضر التنبول على العادة والصندل، وحضر الناس، وأبطأ الوزير سليمان، فاستدعي، فلم يأت، ثم استدعي ثانية، فاعتذر بمرض البنت. فقال لي الوزير سرا: إن بنته امتنعت، وهي مالكة أمر نفسها. والناس قد اجتمعوا فهل لك أن تتزوج بربيبة السلطان زوجة أبيها، وهي التي ولده متزوج بنتها  فقلت له: نعم. فاستدعى القاضي والشـهود، ووقعت الشـهادة، ودفع الوزير الصداق، ورفعت إلي بعد أام، فكانت من خيار النساء. وبلغ حسن معاشرتها أنـها كانت إذا تزوجت عليها تطيبني وتبخر أثوابي، وهي ضاحكة، لا يظهر عليها تغير. ولما تزوجتها أكرهني الوزير على القضاء. وسبب ذلك اعتراضي على القاضي، لكونـه كان يأخذ العشر من التركات، إذا قسمـها على أربابها فقلت له: إنما لك أجرة تتفق بها مع الورثة، ولم يكن يحسن شيئا، فلما وليت، اجتهدت جهدي في إقامة رسوم الشرع. وليست هنالك خصومات، كما هي ببلادنا. فأول ما غيرت من عوائد السوء مكث المطلقات في ديار المطلقين. وكانت إحداهن لا تزال في دار المطلق حتى تتزوج غيره. فحسمت علة ذلك. وأتي إلي بنحو خمسة وعشرين رجلا ممن فعل ذلك، فضربتهم وشـهرتهم بالأسواق، وأخرجت النساء عنـهم، ثم اشتددت في إقامة الصلوات، وأمرت الرجال بالمبادرة إلى الأئمة والأسواق إثر صلاة الجمعة، فمن وجدوه لم يصل ضربته وشـهرته. وألزمت الأئمة والمؤذنين أصحاب المرتبات المواظبة على ما هم بسبيله، وكتبت إلى جميع الجزائر بنحو ذلك وجهدت أن أكسو النساء، فلم أقدر على ذلك.

  ذكر قدوم الوزير عبد الله بن محمد الخضرمي

  الذي نفاه السلطان شـهاب الدين إلى السويد وما وقع بيني وبينـه

صفحة : 296

  كنت قد تزوجت ربيبته بنت زوجته، وأحببتها حبا شديدا. ولما بعث الوزير عنـه، ورده إلى جزيرة المـهل، بعثت له التحف، وتلقيته ومضيت معه إلى القصر فسلم على الوزير، وأنزله في دار جيدة. فكنت أزوره بها. واتفق أن اعتكفت في رمضان. فزارني جميع الناس إلا هو، وزارني الوزير جمال الدين، فدخل هو معه، بحكم الموافقة. فوقعت بيننا الوحشة. فلما خرجت من الاعتكاف شكا إلي أخوال زوجتي ربيبته أولاد الوزير جمال الدين السنجري، فإن أباهم أوصى عليهم الوزير عبد الله، وأن ما لهم باق بيده، وقد خرجوا عن حجره بحكم الشرع، وطلبوا إحضاره بمجلس الحكم، وكانت عادتي إذا بعثت عن خصم من الخصوم، أبعث له قطعة كاغد مكتوبة، فعندما يقف عليها يبادر إلى مجلس الحكم الشرعي، وإلا عاقبته، فبعثت إليه على العادة، فأغضبه ذلك، وحقدها لي، وأضمر عداوتي، ووكل من يتكلم عنـه، وبلغني عنـه كلام قبيح. وكانت عادة الناس من صغير وكبير أن يخدموا له كما يخدمون للوزير جمال الدين، وخدمتهم أن يوصلوا السبابة إلى الأرض، ثم يقبلونـها ويضعونـها على رؤوسهم. فأمرت المنادي فنادى بدار السلطان على رؤوس الأشـهاد أنـه من خدم للوزير عبد الله كما يخدم للوزير الكبير لزمـه العقاب الشديد. وأخذت عليه أن لا يترك الناس لذلك. فزادت عداوته. وتزوجت أيضا زوجة أخرى، بنت وزير معظم عندهم، كان جده السلطان داود حفيد السلطان أحمد شنورازة. ثم تزوجت زوجة كانت تحت السلطان شـهاب الدين، وعمرت ثلاث ديار بالبستان الذي أعطانيه الوزير. وكانت الرابعة هي ربيبة الوزير عبد الله، تسكن في دارها، وهي أحبهن إلي فلما صاهرت من ذكرته، هابني الوزير وأهل الجزيرة، وتخوفوا مني لأجل ضعفهم، وسعوا بيني وبين الوزير بالنمائم، وتولى الوزير عبد الله كبر ذلك حتى تمكنت الوحشة.

  ذكر انفصالي عنـهم وسبب ذلك

صفحة : 297

  واتفق في بعض الأيام أن عبدا من عبيد السلطان الذي شكته زوجته إلى الوزير، وأعلمته أنـه عند سرية من سراري السلطان يزني بها. فبعث الوزير الشـهود، ودخلوا دار السرية، فوجدوا الغلام نائما معها في فراش واحد، وحبسوهما. فلما أصبحت وعلمت بالخبر، توجهت إلى المشور، وجلست في موضع جلوسي، لم أتكلم في شي من أمرها. فخرج إلي بعض الخواص فقال: يقول لك الوزير: ألك حاجة  فقلت: لا. وكان قصده أن أتكلم في شأن السرية والغلام. إذ كانت عادتي أن لا تقطع قضية إلى حكمت فيها. فلما وقع التغير والوحشة قصرت في ذلك. فانصرفت إلى داري بعد ذلك، وجلست بموضع الأحكام. فإذا ببعض الوزراء، فقال الوزير: يقول لك: إنـه وقع البارحة كيت وكيت، لقضية السرية والغلام، فاحكم فيهما بالشرع فقلت له: هذه القضية لا ينبغي الحكم أن يكون فيها إلا بدار السلطان، فعدت إليها واجتمع الناس وأحضرت السرية والغلام، فأمرت بضربهما في الخلوة، وأطلقت سراح المرأة، وحبست الغلام. وانصرفت إلى داري، فبعث الوزير إلى جماعة من كبراء ناسه في شأن تسريح الغلام، فقلت لهم: أتشفعون في غلام زنجي يهتك حرمة مولاه  وأنتم بالأمس خلعتم السلطان شـهاب الدين وقتلتموه بسبب ه لدار غلام له  وأمرت بالغلام عند ذلك، فضرب بقضبان الخيزران، وهي أشد وقعا من السياط، وشـهرته بالجزيرة، وفي عنقه حبل. فذهبوا إلى الوزير فأعلموه. فقام وقعد، واستشاط غضبا، وجمع الوزراء ووجوه العسكر، وبعث عني فجئته. وكانت عادتي أن أخدم له، فلم أخدم. وقلت: سلام عليكم. ثم قلت للحاضرين: اشـهدوا علي أني قد عزلت نفسي عن القضاء لعجزي عنـه. فكلمني الوزير، فصعدت وقعدت بموضع أقابله فيه، وجاوبته أغلظ جواب. وأذن مؤذن المغرب، فدخل إلى داره وهو يقول: ويقولون إني سلطان. وها أنذا طلبته لأغضب عليه، فغضب علي. وإنما كان اعتزازي عليهم بسبب سلطان الهند، لأنـهم تحققوا مكانتي عنده، وإن كانوا على بعد منـه، فخوفه في قلوبهم متمكن. فلما دخلنا إلى داره بعث إلي القاضي المعزول، وكان جريء اللسان، فقال لي: إن مولانا يقول لك: كيف هتكت حرمته على رؤوس الأشـهاد ولم تخدم له  فقلت له: إنما كنت أخدم له حين كان قلبي له طيبا، فلما وقع التغير تركت ذلك، وتحية المسلمين إنما هي السلام، وقد سلمت. فبعثه إلي ثانية فقال: إنما غرضك الرحيل عنا، فأعط صداقات النساء وديون الناس، وانصرف إذا شئت. فخدمت له على هذا القول، وذهبت إلى داري، فخلصت مما علي من الدين. وقد أعطاني في تلك الأيام فرش دار وجهازها من أواني نحاس وسواها. وكان يعطيني كل ما أطلبه، ويحبني ويكرمني، ولكنـه غير خاطره، وتخوف مني. فلما عرف أني قد خلصت الدين وعزمت على الرحيل، ندم على ما قاله، وتلكأ في الإذن لي في الرحيل. فحلفت بالأيمان المغلظة أن لا بد من رحيلي. ونقلت ما عندي إلى مسجد على البحر، وطلقت إحدى الزوجات، وكانت إحداهن حاملا، فجعلت لها أجلا تسعة أشـهر، إن عدت فبها، وإلا فأمرها بيدها. وحملت معي زوجتي التي كانت امرأة السلطان شـهاب الدين لأسلمـها لأبيها بجزيرة ملوك، وزوجتي الأولى التي بنتها أخت السلطانة. وتوافقت مع الوزير عمر دهرد، والوزير حسن قائد البحر، على أن أمضي إلى بلاد المعبر. وكان ملكها سلفي فأبى مدها بالعساكر لترجع الجزائر إلى حكمـه، وأنوب أنا عنـه فيها. وجعلت بيني وبينـهم علامة: رفع أعلام بيض في المراكب. فإذا رأوها ثاروا في البحر. ولم أكن حدثت نفسي بهذا قط، حتى وقع ما وقع من التغير. وكان الوزير خائفا مني يقول الناس: لا بد لهذا أن يأخذ الوزارة، إما في حياتي وإما بعد مماتي. ويكثر السؤال عن حالي، ويقول: سمعت أن ملك الهند بعث إليه الأموال ليثور بها علي. وكان يخاف من سفري لئلا آتي بالجيوش من بلاد المعبر. فبعث إلي أن أقيم حتى يجهز لي مركبا فأبيت. وشكت أخت السلطانة إليها بسفر أمـها معي، فأرادت منعها فلم تقدر على ذلك. فلما رأت عزمـها على السفر قالت لها: إن جميع ما عندك من الحلي هو من مال البندر، فإن كان لك شـهود بأن جلال الدين وهبه لك، وإلا فرديه، وكان حليا له خطر فردته إليهم، وأتاني الوزراء والوجوه، وأنا بالمسجد، وطلبوا مني الرجوع فقلت لهم: لولا أني حلفت لعدت. فقالوا: تذهب لى بعض علماء الجزائر ليبر قسمك وتعود. فقلت لهم: نعم: إرضاء لهم. فلما كانت الليلة

صفحة : 298

  التي سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفا أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنـها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم. سافرت فيها، أتيت لوداع الوزير فعانقني وبكى حتى قطرت دموعه على قدمي، وبات تلك اللية يحرس الجزيرة بنفسه خوفا أن يثور عليه أصهاري وأصحابي. ثم سافرت ووصلت إلى جزيرة الوزير علي. فأصابت زوجتي أوجاع عظيمة، وأحبت الرجوع فطلقتها، وتركتها هنالك، وكتبت للوزير بذلك لأنـها أم زوجة ولده، وطلقت التي كنت ضربت لها الأجل. وبعثت عن جارية كنت أحبها، وسرنا في تلك الجزائر من إقليم إلى إقليم.

  ذكر النساء ذوات الثدي الواحد

 وفي بعض تلك الجزائر، رأيت امرأة لها ثدي واحد في صدرها، ولها ابنتان إحداهما كمثلها ذات ثدي واحد، والأخرى ذات ثديين، إلا أن أحدهما كبير فيه اللبن، والآخر صغير لا لبن فيه. فعجبت من شأنـهن، ووصلنا إلى جزيرة من تلك الجزائر ليس بها إلا دار واحدة فيها رجل حائك له زوجة وأولاد، ونخيلات نارجيل، وقارب صغير يصطاد فيه السمك. ويسير إلى حيث أراد من الجزائر. وفي جزيرته أيضا شجيرات موز. ولم نر فيها من طيور البر غير غرابين خرجا إلينا لما وصلنا الجزيرة وطافا بمركبنا. فغبطت والله ذلك الرجل، وودت أن لو كانت تلك الجزيرة لي، فانقطعت فيها إلى أن يأتيني اليقين. ثم وصلت إلى جزيرة ملوك، حيث المركب الذي للناخوذة إبراهيم، وهو الذي عزمت على الرحيل فيه إلى المعبر. فجاء إلي ومعه أصحابه، وأضافوني ضيافة حسنة. وكان الوزير قد كتب لي أن أعطي بهذه الجزيرة مائة وعشرين بستوا من الكودة، وهي الودع، وعشرين قدحا من الأطوان، وهي عسل النارجيل، وعددا معلوما من التنبول والفوفل والسمك في كل يوم. وأقمت بهذه الجزيرة سبعين يوما، وتزوجت بها امرأتين. وهي من أحسن الجزائر، خضرة نضرة، رأيت من عجائبها أن الغصن ينقطع من شجرها ويركز على الأرض أو الحائط فيورق ويصير شجرة. ورأيت الرمان بها لا يقتطع له ثمر بطول أيام السنة. وخاف أهل هذه الجزيرة من الناخوذة إبراهيم أن ينـهبهم عند سفره، فأرادوا إمساك ما في مركبه من السلاح حتى يوم سفره، فوقعت المشاجرة بسبب ذلك، وعدنا إلى المـهل، ولم ندخلها. وكتبت إلى الوزير معلما بذلك، فكتب أن لا سبيل لأخذ السلاح. وعدنا إلى ملوك، وسافرنا منـها في نصف ربيع الثاني عام خمسة وأربعين. وفي شعبان من هذه السنة توفي الوزير جمال الدين رحمـه الله. وكانت السلطانة حاملا منـه، فولدت إثر وفاته، وتزوجها الوزير عبد الله. وسافرنا، ولم يكن معنا رئيس عارف. ومسافة ما بين الجزائر والمعبر ثلاثة أيام، فسرنا نحو تسعة أيام. وفي التاسع منـها خرجنا إلى جزيرة سيلان، ورأينا جبل سرنديب فيها ذاهبا في السماء كأنـه عمود دخان. ولما وصلناها قال البحرية: إن هذا المرسى ليس في بلاد السلطان الذي يدخل التجار إلى بلاده آمنين، إنما هذا مرسى في بلاد السلطان إيري شكروتي، وهو من العتاة المفسدين. وله مراكب تقطع البحر، فخفنا أن ننزل بمرساه. ثم اشتدت الريح فخفنا الغرق فقلت للناخوذة: نزلني على الساحل، وأنا آخذ لك الأمان من هذا السلطان، ففعل ذلك، وأنزلني بالساحل. فأتانا الكفار فقالوا: من أنتم  فأخبرتهم أني سلف سلطان المعبر وصاحبه، جئت لزيارته. وأن الذي في هذا المركب هدية له. فذهبوا إلى سلطانـهم فأعلموه بذلك، فاستدعاني فذهبت له إلى مدينة بطالة  وضبط اسمـها بفتح الباء الموحدة والطاء المـهمل وتشديدها  ، وهي حضرته، مدينة صغيرة حسنة، عليها سور خشب، وأبراج خشب. وجميع سواحلها مملوءة بأعواد القرفة. تأتي بها السيول فتجمع بالساحل، كأنـها الروابي، ويحملها أهل المعبر والمليبار دون ثمن. إلا أنـهم يهدون للسلطان في مقابلة ذلك الثوب ونحوه. وبين بلاد المعبر وهذه الجزيرة مسيرة يوم وليلة. وبها أيضا من خشب البقم كثير، ومن العود الهندي المعروف بالكلخي، إلا أنـه ليس كالقماري والقاقلي ، وسنذكره.

 ذكر سلطان سيلان




[عربی | پژوهشـهای ایرانی.دریـای پارس. قد الوان زاده]

نویسنده و منبع | تاریخ انتشار: Sat, 01 Sep 2018 01:06:00 +0000